بدت "أنصاف المواقف" التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ اندلاع الثورة السورية وكأنها في طريقها للحسم، فاختفت الجملة الأشهر التي تكررت على لسان الدبلوماسيين الأميركيين "(رئيس النظام بشار) الأسد فقد شرعيته وعليه أن يتخلى عن السلطة"، وراجت مكانها رسالة جديدة قديمة، سعت واشنطن لإيصالها إلى اللاعبين الإقليميين خلال تحركاتها الأسبوع الماضي. وتقول التالي: "النظام السوري باق بصياغة جديدة وبرعاية أميركية روسية وبترضية للاعبين الإقليميين". ونتيجة المعادلة الأميركية الروسية الجديدة أصبحت مفاوضات جنيف قدراً حتمياً على جميع السوريين، سيكون رافضها خارج اللعبة "متعاوناً مع الإرهاب أو داعماً له".
اقرأ أيضاً: مواقف دي ميستورا... فصل من الانحياز إلى روسيا
كثفت الدبلوماسية الأميركية من تحركاتها نهاية الأسبوع الماضي، وبعد اللقاء الذي عقده كل من وزير الخارجية جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف في مدينة زيوريخ السويسرية، توجه إلى الرياض، بينما كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في إسطنبول.
لعبة كيري بالرياض
في الرياض لعب كيري على محورين: الأول كان موجهاً للحلفاء الإقليميين في الخليج والداعمين للمعارضة السورية، عبر التلويح بتطمينات وجوائز ترضية يأتي في مقدّمتها تقديم نظام دفاع صاروخي لدول الخليج والضغط لاتفاق سلام في اليمن ينهي الحرب المستعصية فيه بما يضمن مصالح الخليج. وبعد اجتماعه بوزراء مجلس التعاون الخليجي، أكد كيري، السبت، على التزام واشنطن بأمن الخليج وتوثيق تحالفاتها معه، وذلك خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع نظيره السعودي عادل الجبير.
وفي ردّه على سؤال، حول ما إذا كانت هناك تعهدات مكتوبة تقدمها واشنطن لدول الخليج، لتوثيق التطمينات بشأن قلقها من الاتفاق النووي الإيراني، قال كيري: "لدينا مذكرات تفاهم، واتفاقات مع جميع دول الخليج، وقواعد عسكرية في بعض البلدان، ومبادلات عسكرية، وبرامج تدريب في مجالات الاستخبارات والأمن، وهناك مشاركة للجيوش الخليجية والأميركية في تلك البرامج"، مضيفاً "وهناك جوانب أخرى سوف تقدم مثل العمل على نظام دفاعي صاروخي"، وذلك مع الحفاظ على مرونة تجعل من نتائج المفاوضات السورية في جنيف عرضة لإعادة النظر بما يضمن مصالح حلفاء واشنطن، الأمر الذي أكده كيري، قائلا: "توصلنا إلى تفاهم بشأن إطلاق الجولة الأولى من المفاوضات، وهناك اجتماع لمجموعة أصدقاء سورية، بعد المفاوضات لمعالجة أي قضايا تحتاج للتوافق فيما بيننا".
أما المحور الثاني في زيارة كيري للرياض كان لممارسة ضغوط غير مسبوقة على المعارضة وصلت لحد التلويح بسحب دعمها، ولم يكن تغيير شكل الوفد التفاوضي أساسها، بقدر ما كان ضمان الشروط الكافية لإعادة إنتاج النظام، فأكّد أن "ما يجري في جنيف هو محادثات لا مفاوضات، ستفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، لا هيئة حكم انتقالية"، مانحاً صلاحيات غير مسبوقة للوسيط أممي بالتأكيد على أنّ "من حق الموفد الأممي ستيفان دي ميستورا، التدخّل في تشكيل وفد المعارضة وتعيين مستشارين له". أما شروط المعارضة وإجراءات الثقة التي تطالب بها قبل اجتماعات جنيف كإطلاق المعتقلين، وفك الحصار عن المدن المحاصرة، وإيقاف قصف المدنيين، وإدخال مساعدات إنسانية وسواها، لن تكون مسبقة بل جزءا من المحادثات التي تجري في جنيف، ليتوج كيري إملاءاته بالتأكيد على أنه من "حق بشار الأسد، الترشح للرئاسة في أي انتخابات رئاسية ستُجرى".
"جوائز ترضية" لتركيا
أما في أنقرة، فقد غادر الوفد الأميركي برئاسة بايدن إلى واشنطن بعدما سرّب معلومات حول جائزة ترضية أخرى وسلة من الميزات يتم العمل عليها لاسترضاء أنقرة وتخفيف قلقها، إذ يرأس وزير الأمن الداخلي الأميركي جيه جونسون في فبراير/ شباط المقبل وفداً من عدّة وكالات أميركية ليعرض على الحكومة التركية قائمة بالتكنولوجيات التي يمكن أن تستخدم في ضبط الحدود. من المرجح أن تشمل بالونات المراقبة وتكنولوجيا كشف الأنفاق. إضافة إلى إتاحة وسائل رصد المواد المستخدمة في صناعة العبوات التفجيرية، فيما سيكون له بالغ الأثر ليس فقط على ضبط الحدود مع تنظيم (الدولة الإسلامية) "داعش"، لكن على المعركة القائمة حالياً بين قوات الأمن التركية و"العمال الكردستاني".
ورغم التفريق بينه وبين جناحه السوري حزب "الاتحاد الديمقراطي"، فقد تحول "الكردستاني" رغم كل الخدمات التي قدمها على مدار أكثر من عامين في الحرب على "داعش" إلى منظمة إرهابية تقف على قدم المساواة مع كل من "داعش" و"جبهة النصرة"، بحسب تصريحات بايدن. بل وعليه التخلي عن السلاح والعودة إلى المفاوضات. وفيما تم الاتفاق حول التواجد العسكري التركي في منطقة بعشيقة شمال العراق، يجري التقارب بين أنقرة والاتحاد الأوروبي على قدم وساق، إذ أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قبل أيام، على التزام الاتحاد بالاتفاق الموقع مع أنقرة حول أزمة اللاجئيين بما في ذلك الـ3 مليارات يورو المقدمة للاجئين السوريين. وفتح فصول جديدة في مسيرة انضمام تركيا للاتحاد، وكذلك إلغاء تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك لمنطقة شينغن.
على أن تتقدم المفاوضات في شأن حل القضية القبرصية بشكل ثابت. وتُرجم هذا التقدم بالزيارة التي أجراها أمس الإثنين، وفد أوروبي بقيادة كل من مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد، فريديركا مورغيني، ومسؤول شؤون توسعة الاتحاد، يوهانس هان.
إيران مشغولة بالتقارب
حلّت هذه التطورات دون أي تعليق من الدبلوماسية الإيرانية التي بدت منشغلة بإعادة توطيد علاقاتها مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي وواشنطن، بعد إعادة الحديث عن إمكانية إعادة رحلات الطيران المباشرة من طهران إلى الولايات المتحدة. رغم التقارير الإعلامية التي تحدثت عن غضب كبير من المحافظين من السياسات الروسية في سورية، وصل لحدّ اتهامها باحتلال سورية. وبالتالي، فإن أي صفقة لا تتعرّض لدور حزب الله في لبنان، يبدو أنها لن تلقى اعتراضاً إيرانياً، ما دام الحليف الروسي يدير اللعبة.
حرية حركة إسرائيلية بالملعب السوري
على الجانب الإسرائيلي، تبدو حكومة الاحتلال راضية حتى الآن على السيطرة الروسية على سورية، ضمن الاتفاقات التي عقدها رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في العاصمة الروسية موسكو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتحولت الأجواء السورية بموجبها إلى ساحة حرة لحركة الطيران الإسرائيلي لتوجيه ضربات لحزب الله، ومنع وصول أي أسلحة من شأنها تغيير التوازنات الحالية. ولا يبدو أن تل أبيب ستقف في وجه إعادة إنتاج النظام السوري، في حال قدمت موسكو تعهدات بضمان هدوء حدود الجولان السوري المحتل.
داود أوغلو إلى الرياض
ووسط الترويج لهذه التسوية الأميركية الروسية بخصوص سورية، يسارع رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، إلى السعودية، يوم الجمعة المقبل، في إطار زيارة رسمية تستغرق ثلاثة أيام، ليتشاور مع الحليف السعودي بشأن ما حمله الحراك الدبلوماسي الأميركي خلال الأسبوع الماضي. وقالت مصادر في رئاسة الوزراء التركية، إن داود أوغلو يلتقي كبار المسؤولين السعوديين في العاصمة الرياض، وفي مدينة جدة، يبحث خلالها العلاقات الثنائية بين البلدين، إضافة الى عدد من القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وفي المقدّمة التطورات الأخيرة في ما يخص مفاوضات جنيف السورية.
تفاهم في ساحة القتال
في الميدان السوري، تغض واشنطن النظر عن الجرائم التي ترافق القصف الروسي، بحيث تتقدم قوات النظام السوري بوتيرة ثابتة في محافظة اللاذقية بغطاء جوي روسي وبقيادة روسية واضحة للعمليات، يبدو أن الهدف الأهم لها هو ضمان أمن القاعدة الروسية في مطار حميميم. بالتزامن مع سماح واشنطن لموسكو بتوسيع تواجدها العسكري في مناطق سيطرة حليفها "الاتحاد الديمقراطي"، عبر العمل على تحويل مطار القامشلي الدولي إلى قاعدة لها، في خطوة بدت دعماً للنظام السوري، الذي تعاني العلاقة بين حلفائه الرسميين و"الاتحاد الديمقراطي" توتراً كبيراً، سواء من ناحية العلاقة بين "الاتحاد الديمقراطي" وقوات الدفاع الوطني التي تسيطر على حي طي العربي في المدينة، أو مع قوات سوتورو السريانية التي تسيطر على حي الوسطى.
في غضون ذلك، يدور الحديث في أنقرة عن إمكانية قيام طيران التحالف بدعم بعض الفصائل العربية السنية التي لا علاقة لها بالسلفية الجهادية في معارك مع "داعش"، مثل قوات الهيئة الشامية المرابطة في ريف حلب الشرقي. كما تحاول قوات المعارضة حلّ الخلافات مع جيش الثوار بقيادة جمال معروف المنضوي ضمن قوات "سورية الديمقراطية". وتشير تقارير إلى محاولات عدد كبير من الفصائل الثورية في أعزاز وتل رفعت ومارع ودير جمال، لتشكيل غرفة عمليات في الريف الشمالي، بمشاركة جيش الثوار. بل تم التوصل إلى تفاهم مبدئي بينها لقتال "داعش". بينما تم الإعلان في أطراف مدينة إدلب، التي يسيطر عليها "جيش الفتح"، عن تشكيل حركة عسكرية جديدة تحت مسمى "حركة حراس الشام".
وأكدت الحركة الجديدة في بيانها أن لا عدو لها إلا النظام السوري وحلفاؤه، من روسيا وإيران، وأنها لن تقاتل أحداً من الفصائل السورية التي تقاتل النظام. قبل أن يعلن مؤسس الحركة وقائدها المقدم أحمد القناطري، بأنها ليست حركة إسلامية، بل فصيلا ثوريا سوريا يسعى لإسقاط النظام السوري وبناء "سورية حرة ديمقراطية مستقلة".
اقرأ أيضاً: الشرق الأوسط في آخر أعوام إدارة أوباما