ولم يقتصر انسحاب تنظيم "داعش" على بلدة دابق، حيث شمل هذا الانسحاب أيضاً، قرى وبلدات كان يسيطر عليها في محيط دابق بريف حلب الشمالي، أهمها احتيملات وصوران وحوار النهر، لتسقط بذلك مناطق سيطرة "داعش" شمال حلب جميعاً بيد قوات المعارضة السورية، التي تنضوي مع قوات خاصة تركية، منذ شهر آب/أغسطس الماضي، في غرفة عمليات "درع الفرات"، وهي غرفة عمليات نجحت، خلال شهرين، في إلحاق هزائم كبيرة بتنظيم "داعش" الذي بات لا يسيطر الآن على أي نقطة على الجانب السوري على الحدود التركية.
ويطرح انسحاب "داعش" السريع من سهل دابق، وهو السهل الممتد بريف حلب الشمالي بطول يتجاوز الخمسة والثلاثين كيلومتراً وبعرض يناهز العشرين كيلومتراً، تساؤلات جديّة حول مدى الضعف الذي وصل إليه التنظيم، ذلك أن هذه المنطقة حظيت منذ الإعلان عن تأسيس التنظيم في سورية بأهمية رمزية عالية، فيما يمكن أن يطلق عليه "أدبيات التنظيم".
حيث ركز التنظيم، منذ الإعلان عن تأسيسه في سورية منتصف عام 2013، على نبوءة نقلت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم تقول إن "معركة فاصلة ستقع في آخر الزمان في سهل دابق بين جيش المسلمين وجيش الروم تنتهي بانتصار المسلمين ومن ثم بظهور المسيح الدجال ونزول عيسى ابن مريم من السماء وقيام الساعة".
اعتمد التنظيم على هذه النبوءة في تجنيد الآلاف من الشبان من كل العالم، مدعياً أنه يُحضّر جيشاً لقتال "الروم" في دابق بمعركة "آخر الزمان"، وحشد التنظيم منذ تأسيسه ماكينته الإعلامية بكاملها للترويج لهذه النبوءة، وسخّر لذلك إصدارات مصورة وكتيبات ومحاضرات صوتية تم بثها جميعاً على شبكة الإنترنت، بل إن التنظيم أطلق على مجلته الشهرية الرسمية الصادرة باللغة الإنجليزية اسم "دابق"، ليستقطب "داعش" من خلال هذا الترويج لـ"نبوءة دابق" آلاف الشبان الذين التحقوا بصفوفه للاشتراك في المعركة.
وبالنظر إلى هذه الأهمية الرمزية العالية لدابق في نظرية "داعش" الإيديولوجية، كان من المفاجئ انسحابه بهذا الشكل السريع، حيث كان من المنتظر أن يبدي التنظيم مقاومة عنيفة في المنطقة، إلا أن الاستنزاف المستمر الذي بات "داعش" يتعرض له، خلال الأشهر الأخيرة، يبدو أنه أوصله إلى مرحلة من الضعف بات معها غير قادر على الدفاع عن أبرز أيقوناته على الإطلاق.
ذلك أن معركة دابق، التي كان يفترض أن يخوضها، كانت ستجري في السهل المنبسط المحيط بالبلدة، وهو ما يعني انكشاف مسلحي داعش وآلياتهم أمام طائرات التحالف الدولي لمحاربة التنظيم والذي تقوده الولايات المتحدة وتشكل تركيا أبرز الفاعلين فيه، بما يخص معركة ريف حلب الشمالي.
وستكون لهذه النكسة الكبيرة لـ"داعش"، والمتمثلة في خسارته دابق، آثار سلبية كبيرة على التنظيم من الناحية المعنوية، ذلك أن مقاتلي التنظيم الذين كانوا ينتظرون خوض "الملحمة" باتوا يتساءلون الآن عن معنى قتالهم إلى جانب تنظيم يدّعي أنه يجهز لخوض "ملحمة دابق" وهو في الواقع ينسحب منها بدون مقاومة تذكر.
وستكون لهذه النكسة المعنوية بلا شك آثار سلبية على إمكانيات التنظيم العسكرية، خصوصاً بعد أن أصبحت أعين قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا والتحالف الدولي، تتوجه مباشرةً نحو مدينة الباب بريف حلب الشرقي التي تنتظر أن تتوجه إليها أرتال قوات "الجيش السوري الحر".
وسيؤدي استمرار تراجع "داعش" في ريف حلب الشرقي بعد خسارته مناطق سيطرته بريف حلب الشمالي، إلى انهيار التنظيم بالنهاية في مناطق الشمال السوري، لتنتقل المعركة مباشرةً إلى مدينة الرقة شرق سورية، والتي اتخذها "داعش" عاصمة له. وفي المقابل، سيعني ذلك عودة نفوذ قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا إلى سابق عهدها منذ ثلاث سنوات، قبل صعود نجم تنظيم "داعش" الذي أرهق قوات المعارضة شمال حلب واستنزفها، الأمر الذي أثر على أدائها أمام قوات النظام السوري في مدينة حلب.
وهذا يعني أن سيناريو المنطقة الآمنة التي تديرها المعارضة السورية المدعومة من تركيا شمال حلب، والذي تحدث عنه المسؤولون الأتراك مراراً، بات قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح أمراً واقعاً، خصوصاً في حال استمرار تقدم قوات المعارضة شمال وشرق مدينة حلب على حساب "داعش"، ذلك أن قوات المعارضة باتت تسيطر على كامل الجانب السوري من الحدود مع تركيا، من مدينة جرابلس شرقاً وحتى مدينة اعزاز غرباً، بطول يناهز الخمسة والتسعين كيلومتراً، وبعمق يتراوح بين عشرة وعشرين كيلومتراً داخل الأراضي السورية.
ويصبّ كل ذلك- في النهاية- في صالح قوات المعارضة السورية في حلب التي ستستفيد بلا شك من انهيار تنظيم داعش، وبالتالي سيطرة قواتها على مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، لتصبح هذه المناطق بمثابة حديقة خلفية لقوات المعارضة المحاصرة في مدينة حلب، والتي ما زالت تتصدى لهجوم عنيف من النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين، ليرفع ذلك من احتمال انقلاب المعطيات في الشمال السوري كلياً، إذا ما نجحت قوات المعارضة في إتمام مهمة القضاء على "داعش" في ريف حلب، لتتفرغ بعدها لاستعادة المناطق التي خسرتها في محيط مدينة حلب من النظام السوري وحلفائه.