أثبتت تونس مجدداً، أن الثورة التي عاشتها وغيرت وجه المنطقة العربية قبل 6 سنوات، لا تزال مفاعيلها قائمة حتى اليوم، على الرغم من كل ما اعترى التجربة من مطبات وانزلاقات. فقد عاش العالم العربي، مع تونس، يومي أمس وأول من أمس، مشهداً استثنائياً لم تعهده المنطقة العربية كلها، ولم يكن يتوقعه أحد منذ بضع سنوات. يتعلق الأمر بفتح ملفات الاستبداد إلى العلن، وتمكين ضحايا انتهاكات العهد المخلوع من إسماع أصواتهم وتقديم شهاداتهم الحيّة عمّا عاشته عائلات تونسية كثيرة، سُجِن أبناؤها ولوحقت بناتها وقتل منهم الكثير، داخل السجون وخارجها.
ولم تكن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، مخطئة عندما قالت إن لا صوت يعلو اليوم فوق صوت الضحايا، مؤكدة في افتتاح هذه اللحظة التاريخية، أن تونس لن تقبل بعد اليوم انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان. ورأت أن هذا الشرط ضروري لتحقيق المصالحة الوطنية. وشددت على حق الضحايا في العدل والإنصاف، مشيرة إلى أن هذا التاريخ الذي تسلكه اليوم تونس هو طريق لمحبي السلام في العالم. ولفتت إلى أنه منذ عامين، قامت هيئة الحقيقة والكرامة بعمل جبار للتقصي والبحث عن الانتهاكات، واستقبلت أكثر من 65 ألف ملف لضحايا الانتهاكات.
ولخصت بن سدرين الجلسة الافتتاحية للاستماع إلى الشهادات العلنية لضحايا الانتهاكات بالتساؤلات التالية: كيف حدثت تلك الانتهاكات؟ كيف نحمي تونس مما حصل؟ كيفت وظفت مؤسسات عمومية لخدمة أهداف قذرة وأصبحت أداة في خدمة الاستبداد وخلفت القتل وانتهاك الحقوق؟ وأوضحت أن جلسات الاستماع ستمتد على سنة كاملة "لتحرير الأصوات التي تم تكميمها وفضح ما جرى من ممارسات لم تسلم منها عائلة سياسية واجتماعية".
ويعتبر الوصول إلى أول جلسة استماع للضحايا، انتصاراً على أكثر من صعيد. فقد عانى مسار العدالة الانتقالية من صعوبات كثيرة، داخل الهيئة التي شهدت خلافات متتالية، ونظراً إلى الأحداث التي شهدتها البلاد طيلة السنوات الماضية والتي كانت تصعّد المخاوف من أن تقود الجلسات إلى توتير الوضع السياسي وربما إحداث انقسام بين التونسيين. لكن تجربة اليوم الأول كانت مثالية على أكثر من وجه. وحملت خطابات الضحايا الهادئة رسائل بالجملة للتونسيين الذين ظلوا يتابعون تفاصيلها ويكتشفون هول ما حدث مباشرة على الشاشات. في المقابل، لم يفاجأ معظم السياسيين بهذه الشهادات والرسائل، باعتبار أن أغلبهم كانوا من المعارضين ومورست بحقهم أيضاً تلك الانتهاكات.
وكانت شجاعة الهيئة لافتة في إطلاق الجلسات، مع أن عملها اتسم بمناخ من التوتر. فقد خلق الحكم القضائي الصادر في قضية مقتل القيادي في حزب نداء تونس، لطفي نقض، جواً سياسياً مشحوناً للغاية بعد تبرئة المتهمين. وكان الخلاف على أشده بين الحكومة وبعض المكونات الاجتماعية حول ميزانية الدولة، التي انطلقت مناقشتها أمس الجمعة، وسط تهديد بالإضراب العام. لكن الهيئة حافظت على موعد إطلاق هذا الحدث التاريخي لتكرسه كأحد أبرز الأهداف المحققة لثورة 2010. ويتعلق الأمر بالالتزام بمسائل الشفافية ومصالحة التونسيين مع تاريخهم والعدالة الاجتماعية والحؤول دون عودة جرائم العهود السابقة وتوسيع هامش الحريات الفردية والجماعية والإعلامية ومكافحة الفساد وتكريس التنمية المتوازنة بين كافة المناطق التونسية.
اقــرأ أيضاً
وعلى الرغم من أن السياسيين الحاضرين كانوا من ضحايا الانتهاكات، باعتبار أن معظمهم دخل السجون في حقبتي الرئيس الحبيب بورقيبة، والمخلوع زين العابدين بن علي، إلا أنهم أبدوا تأثرهم بسماع شهادات عائلات الضحايا. لكن الاندهاش الأكبر كان في بيوت التونسيين الذين تابعوا الحدث عبر شاشات التلفزيون، بسبب كشف القناع عن تفاصيل لم يكن يتخيلها أحد.
وكانت شهادة المناضل والباحث، سامي براهم، صادمة ومزلزِلة، على الرغم من هدوئه اللافت واستعداده للصفح عن الجلادين، ونجاحه في تجاوز آلامه. لكن براهم الذي كشف حقيقة ما يحدث داخل السجون من إصرار على هتك كرامة المساجين، شرح حقيقة البيوت المظلمة، وما عاناه آلاف من التونسيين، ليكتشف الناس هول ما كان يحدث بالفعل. واكتفى بدعوة الجلادين للاعتراف، مؤكداً أنه لم يطلب شيئاً لنفسه، وأن غايته من تقديم ملفه للعدالة الانتقالية، هو أن تؤمن لابنته ولجميع أبناء التونسيين ضمانات لعدم تكرار ما ظل يحدث على امتداد عقود.
وقدمت الجلسة نماذج لأمهات تونسيات فقدن أبناءهن مع انطلاق شرارة الثورة التونسية. وقالت السيدة وريدة الكدوسي، والدة شهيد الثورة، رؤوف الكدوسي، الذي سقط في مدينة الرقاب يوم 8 يناير/كانون الثاني 2011، إن ابنها سقط على يد قوات الأمن بدم بارد. ولفتت إلى حجم معاناة الشباب التونسي، ومعاناة ابنها الذي عاش حياته مظلوماً ومحروماً من أبسط الحقوق، وحتى من دفتر العلاج الصحي لابنته الوحيدة، الذي انتزع منها بحسب قولها. ولكن وريدة، التي تحدثت بطلاقة لافتة وبعمق استثنائي، أكدت أنه يكفيها أن ترى أهداف الثورة قد تحققت لتتجاوز حزنها على شهيدها، لأن المناطق المهمشة التي أطلقت شرارة الثورة التونسية لم يتم إنصافها إلى غاية اليوم، وبقيت منسية لا يزورها مسؤول ولا يلتفت إليها أحد، مثل سيدي بوزيد والرقاب والقصرين وبزيّان وغيرها من مناطق الأطراف. وقالت إنها مستعدة لتقديم حياة بقية أبنائها وحياة ابنها الشهيد رؤوف من جديد لو عاد إلى الحياة، مقابل تحقيق أهداف الثورة التي حلم بها من ثار على نظام بن علي. وتأسفت وريدة على أن القضاء العسكري لم ينصف الشهداء والجرحى، مطالبة بتحويل الملفات إلى العدالة الانتقالية التي تمثل بالنسبة إليها "الأمل الأخير في الإنصاف"، بحسب وصفها.
وتلاحقت شهادات الأمهات التونسيات، لتسلّط الضوء على معاناة عائلات كثيرة، ومن بينهن من لا تعرف إلى اليوم أين دفن زوجها، ولم تتسلم جثته إلى غاية اللحظة. وطالبن السياسيين الذين عادت بهم الثورة من منافيهم وأخرجتهم من سجونهم ومنحتهم كرسي الحكم، بعدم نسيان الماضي، والكف عن تجاهل الجهات المحرومة التي كانت سبباً في اندلاع الثورة وتغيير تونس، مؤكدين أن اندلاع الثورة من جديد بات أسهل بكثير من 2011 لأن الخوف زال عن التونسيين نهائياً.
واعتبر سياسيون حضروا الجلسة، أنها لحظة تاريخية في حياة تونس والتونسيين، وأن بعض ضحايا الأمس هم حكام اليوم، مشدّدين على قدرة التونسيين المظلومين على الصفح وتجاوز آلام الماضي. واعتبر آخرون أن هذه الشهادات لم تكن مفاجئة لهم، ولكنها قد تفاجئ تونسيين كثيرين لم يتوقعوا حجم الانتهاكات التي كانت تحدث في بلادهم.
ولم تكن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، مخطئة عندما قالت إن لا صوت يعلو اليوم فوق صوت الضحايا، مؤكدة في افتتاح هذه اللحظة التاريخية، أن تونس لن تقبل بعد اليوم انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان. ورأت أن هذا الشرط ضروري لتحقيق المصالحة الوطنية. وشددت على حق الضحايا في العدل والإنصاف، مشيرة إلى أن هذا التاريخ الذي تسلكه اليوم تونس هو طريق لمحبي السلام في العالم. ولفتت إلى أنه منذ عامين، قامت هيئة الحقيقة والكرامة بعمل جبار للتقصي والبحث عن الانتهاكات، واستقبلت أكثر من 65 ألف ملف لضحايا الانتهاكات.
ويعتبر الوصول إلى أول جلسة استماع للضحايا، انتصاراً على أكثر من صعيد. فقد عانى مسار العدالة الانتقالية من صعوبات كثيرة، داخل الهيئة التي شهدت خلافات متتالية، ونظراً إلى الأحداث التي شهدتها البلاد طيلة السنوات الماضية والتي كانت تصعّد المخاوف من أن تقود الجلسات إلى توتير الوضع السياسي وربما إحداث انقسام بين التونسيين. لكن تجربة اليوم الأول كانت مثالية على أكثر من وجه. وحملت خطابات الضحايا الهادئة رسائل بالجملة للتونسيين الذين ظلوا يتابعون تفاصيلها ويكتشفون هول ما حدث مباشرة على الشاشات. في المقابل، لم يفاجأ معظم السياسيين بهذه الشهادات والرسائل، باعتبار أن أغلبهم كانوا من المعارضين ومورست بحقهم أيضاً تلك الانتهاكات.
وكانت شجاعة الهيئة لافتة في إطلاق الجلسات، مع أن عملها اتسم بمناخ من التوتر. فقد خلق الحكم القضائي الصادر في قضية مقتل القيادي في حزب نداء تونس، لطفي نقض، جواً سياسياً مشحوناً للغاية بعد تبرئة المتهمين. وكان الخلاف على أشده بين الحكومة وبعض المكونات الاجتماعية حول ميزانية الدولة، التي انطلقت مناقشتها أمس الجمعة، وسط تهديد بالإضراب العام. لكن الهيئة حافظت على موعد إطلاق هذا الحدث التاريخي لتكرسه كأحد أبرز الأهداف المحققة لثورة 2010. ويتعلق الأمر بالالتزام بمسائل الشفافية ومصالحة التونسيين مع تاريخهم والعدالة الاجتماعية والحؤول دون عودة جرائم العهود السابقة وتوسيع هامش الحريات الفردية والجماعية والإعلامية ومكافحة الفساد وتكريس التنمية المتوازنة بين كافة المناطق التونسية.
وعلى الرغم من أن السياسيين الحاضرين كانوا من ضحايا الانتهاكات، باعتبار أن معظمهم دخل السجون في حقبتي الرئيس الحبيب بورقيبة، والمخلوع زين العابدين بن علي، إلا أنهم أبدوا تأثرهم بسماع شهادات عائلات الضحايا. لكن الاندهاش الأكبر كان في بيوت التونسيين الذين تابعوا الحدث عبر شاشات التلفزيون، بسبب كشف القناع عن تفاصيل لم يكن يتخيلها أحد.
وكانت شهادة المناضل والباحث، سامي براهم، صادمة ومزلزِلة، على الرغم من هدوئه اللافت واستعداده للصفح عن الجلادين، ونجاحه في تجاوز آلامه. لكن براهم الذي كشف حقيقة ما يحدث داخل السجون من إصرار على هتك كرامة المساجين، شرح حقيقة البيوت المظلمة، وما عاناه آلاف من التونسيين، ليكتشف الناس هول ما كان يحدث بالفعل. واكتفى بدعوة الجلادين للاعتراف، مؤكداً أنه لم يطلب شيئاً لنفسه، وأن غايته من تقديم ملفه للعدالة الانتقالية، هو أن تؤمن لابنته ولجميع أبناء التونسيين ضمانات لعدم تكرار ما ظل يحدث على امتداد عقود.
وتلاحقت شهادات الأمهات التونسيات، لتسلّط الضوء على معاناة عائلات كثيرة، ومن بينهن من لا تعرف إلى اليوم أين دفن زوجها، ولم تتسلم جثته إلى غاية اللحظة. وطالبن السياسيين الذين عادت بهم الثورة من منافيهم وأخرجتهم من سجونهم ومنحتهم كرسي الحكم، بعدم نسيان الماضي، والكف عن تجاهل الجهات المحرومة التي كانت سبباً في اندلاع الثورة وتغيير تونس، مؤكدين أن اندلاع الثورة من جديد بات أسهل بكثير من 2011 لأن الخوف زال عن التونسيين نهائياً.
واعتبر سياسيون حضروا الجلسة، أنها لحظة تاريخية في حياة تونس والتونسيين، وأن بعض ضحايا الأمس هم حكام اليوم، مشدّدين على قدرة التونسيين المظلومين على الصفح وتجاوز آلام الماضي. واعتبر آخرون أن هذه الشهادات لم تكن مفاجئة لهم، ولكنها قد تفاجئ تونسيين كثيرين لم يتوقعوا حجم الانتهاكات التي كانت تحدث في بلادهم.