وفي خطاب "التخلي"، أمس الخميس، أعلن هولاند عدم ترشحه، بالتزامن مع انطلاق الترشيحات لانتخاب اليسار الفرعية، مؤكداً أنه "لن أقبل بتشظّي اليسار"، ولو أن الكثيرين من اليسار لن يوافقوه على هذه القراءة بسبب دوره وسياسته في وصول اليسار إلى هذه الحالة الميؤوس منها، مع قرب الانتخابات وصعود شعبية اليمين. كما أن الحالة التي يعيشها اليسار الفرنسي بعد ولاية هولاند تشبه، في هشاشتها، الحالة التي أعقبت 14 عاماً من حكم الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران.
وعلى الرغم من طاقة التحمّل التي يشتهر بها هولاند، مدعومة بروح النكتة والسخرية، من ذاته ومن الآخرين، فإن الحِمْل كان ثقيلاً هذه المرة. وإذا كان يُعرف عن الرئيس أنه لا يحتفظ كثيراً بالأسرار، وهو ما برهن عليه في كتاب المحاورات مع صحافيي "لوموند"، إلا أنه هذه المرة، فاجأ الجميع، حتى مستشاريه، معلنا خطاب التخلي.
وإلى آخر دقيقة قبل الخطاب، كان الجميع، خصوصاً في الحزب الاشتراكي واليسار، ينتظر خطاب الترشّح، وإن لم تكن الصيغة معروفة، وهو ما دفع أول مرشح معلن لانتخابات اليسار الفرعية آرنو مونتبورغ، إلى التحذير من أي ترشح للرئيس دون المرور عن طريق الانتخابات الفرعية، وإلا فإن الرئيس، حينها، "سيجد نفسه محل معارضة كل المرشحين".
ونصح رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس بالخروج من الحكومة إذا كان ينوي الترشح للانتخابات هو أيضاً. في حين أن القيادية اليسارية مارتين أوبري، كانت حتى يوم أمس، تنصح فالس بضرورة احترام الوظيفة وإخفاء اعتراضاته على الرئيس أو رغباته في الترشح.
والحق أن الرئيس هولاند، الذي لم ينجح قط في الحصول على تفهم الفرنسيين، والذي لم يعد يوافق على ترشحه سوى 7 في المائة من المواطنين في آخر استطلاع للرأي، لم يكن محظوظاً في ولايته خصوصاً مع الاعتداءات "الإرهابية" المتلاحقة. ووجد الرئيس نفسه في فترة "الإرهاب" يرتدي البزة العسكرية، مدفوعاً لاتخاذ قرارات حاسمة وأحياناً قاسية وغير شعبية، مع وجود أقلية اشتراكية "متمردة" عارضته، طيلة ولايته الرئاسية، إضافة إلى معارَضة يمينية تتقن لغة المزايدات، وتفاوض بحنكة.
وعلى الرغم من أن هولاند استعرض ما اعتبر أنها منجزات له، مع اعتذار واحد، عن رغبته في إحداث تغيير دستوري حول نزع الجنسية بعد اعتداءات نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بدا غير مقتنع بما يقول.
قدّم هولاند في حملته الانتخابية 60 وعداً انتخابياً، لم يطبّق منها إلا القليل. لعلّ من أهمها؛ "الزواج للجميع" (معارضو هذا القانون هم الذين نصّبوا فرانسوا فيون مرشحا لليمين). أمّا "حق التصويت للأجانب"، و"وقف اعتقالات الشرطة لمواطنين بالارتكاز على السحنة"، وغيرها من الوعود، التي صدح بها في الأحياء الشعبية والضواحي، والتي تنتظر التطبيق منذ فرانسوا ميتران، فيمكن أن تنتظر طويلاً.
ولعلّ ما يسمى بإصلاح "قانون الشغل"، كان القشة التي قصمت ظهر وفاء اليسار للطبقات الشعبية والطبقات الوسطى.
أراد هولاند أن يكون رئيساً "عادياً"، لكنه أساء اختيار معاونيه ووزرائه، فعيّن أكيلينو موريل، مستشاراً له وظَّف ماسحَ أحذية في الإليزيه ويستعد لإصدار كتاب لاذع ضده، قريباً. وعيّن حلاقا له برتبة وزير، ووزيرا للاقتصاد سرعان ما تخلّى عنه وأعلن ترشحه للانتخابات، وعيّن وزيرا لمقاومة تهريب الأموال سرعان ما ثبت أن له حسابا مصرفيّا في بلد أجنبي.
الكل مرشح ضد الرئيس
لم يكن "المتمرّدون" من الاشتراكيين وحدهم من يُعارض ترشح الرئيس الحالي، تلقائيا، إذ انضم إليهم قادة من يسار الحزب، على رأسهم أرنو مونتبورغ وماري-نويل ليينيمان وبُونْوا هامون، دون أن تقول مارتين أوبري كلمتها بعد، ودون إغفال فالس، الذي لم يُخف رغبته الملتبسة في الترشح للدفاع عن الخط السياسي الإصلاحي الذي يتبناه داخل الحزب، مدفوعاً باستطلاعات رأي تمنحنه بعض الصدارة.
ولا شك أن نوايا وطموحات فالس الملتبسة، وهو الشخصية السياسية شبه الوحيدة التي أفلتت من "مجزرة" كتاب "يجب على الرئيس ألّا يقول هذا"، كان لها دورٌ ما في قرار الرئيس هولاند، إضافة إلى الشعبية التي بدأ يقطفها مرشح اليسار جان لوك ميلونشون وإيمانويل ماكرون.
ردود الفعل السياسية
إذا كان فالس، وهو من أهم المستفيدين من قرار هولاند، والذي يستطيع الآن، أن يتقدم إلى الترشح مسلَّحاً بما يعتبره إصلاحات وإنجازات، قد حرص على إظهار "تأثره واحترامه ووفائه ومودته" لهولاند في قراره، فإن وزير التربية الأسبق بونوا هامون رأى في قرار الرئيس "إقراراً بعدم القدرة على تجميع اليسار. وقراره يفتح الطريق أمام رئيس حكومته. اليسار في وضعية سيئة، ولكنه لم يتهدم".
في حين أن ماكرون رأى أنه "من الصعب التعبير عن هذا القرار. وهو جريء في هذا السياق. واتخاذه ليس محايدا، مهما كانت شعبيته الحالية". وكان ميلونشون، أول المرحّبين بقرار فرانسوا هولاند، مشددا على أن رئيس الجمهورية، ومعه رئيس حكومته، لم ينفذا أي سياسة يسارية في البلد، "إنه إقرار ضخم بالفشل"، على حد تعبيره.
أما المرشح اليميني فرانسوا فيون، فرأى في قرار هولاند "فشلا يمنعه من الذهاب بعيداً"، معتبرا أن هذه الولاية الرئاسية تنتهي في "فوضى سياسية وميوعة السلطة"، في حين أن البرلماني إيريك سيوتي اعتبر أن "القرار منطقي، إذ كيف كان سيترشح في ظل حصيلة كارثية؟".