ولعلّ معادلة التنافس في هذا السباق الانتخابي لا تختلف كثيراً عن كل استحقاق شبيه جرى خلال السنوات القليلة الماضية من ناحية وجود تيارين تقليديَّين متنافسَين وهما؛ المحافظ والإصلاحي. لكن ما تغيّر هذه المرة، هو اختلاف موازين القوى لكل تيار، وآليات خوض المنافسة، فضلاً عن وجود لوائح جديدة مركّبة في غالبيتها بين مرشحين ينتمون لكلا التيارَين. وهو ما يعني ورقة قوة لتيار "الاعتدال" الوسطي، الذي يقوده فعلياً رئيس البلاد حسن روحاني، ويُعدّ رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، أكبر هاشمي رفسنجاني الأب الروحي لهذا التيار.
التيار المحافظ الذي سيطر على البرلمان لثلاث دورات متتالية قرّر خوض السباق بتوحيد صفوف كل الأحزاب والجبهات المنضوية تحت اسمه. وكان "المحافظ" أوّل من أعلن عن لائحته. وبدا التيار الأكثر توازناً من بين جميع المتنافسين من ناحية شعاراته وطريقة خوضه للانتخابات. وأعلن التيار المحافظ عن لائحة أطلق عليها اسم "ائتلاف المحافظين" أو "الجبهة المتحدة للمحافظين". ضمت في العاصمة طهران 30 مرشحاً، بالإضافة إلى وجود اللائحة ذاتها بالعنوان نفسه وقد قُدمت عن باقي المحافظات. وتضم شخصيات من جمعية رجال الدين المناضلين، وجبهة "الصمود"، تجمع "يكتا"، وجبهة "الاستقامة"، بالإضافة إلى جبهات وأحزاب محافظة أخرى.
وما كان لافتاً، هو تواجد مرشحين في اللائحة ممن حسبوا في وقت سابق على تيار الرئيس المحافظ السابق، محمود أحمدي نجاد، وهم ممن أُطلق عليهم "المحافظين الجدد". وزادت الفجوة بينهم وبين المحافظين التقليديين في السابق، إلا أنّ بعضهم يخوض السباق الحالي تحت لواء "ائتلاف المحافظين" الذي يرفع شعار "المعيشة، الأمن، التطور". ويركّز مرشحوه في الدعاية الانتخابية على تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد، وحلّ مشاكل المواطنين، ولا سيما أن بعض المحافظين المتشددين متخوّفون من نتائج الاتفاق النووي الذي سيتسبب بانفتاح كبير على الغرب.
وقال رئيس "ائتلاف المحافظين"، غلام علي حداد عادل، في أحد مهرجانات التيار الدعائية، إنه "من الضروري التركيز على الخلل الاقتصادي في البلاد وحلّ مشاكل المواطنين"، مؤكداً أنّ "من المهم أن يكون البرلمان المقبل قوياً قادراً على إرشاد السياسات الاقتصادية للحكومة". واعتبر غلام أنّه "من المقلق ارتباط اقتصاد إيران باقتصاد الخارج"، مشيراً إلى أن "لائحة المحافظين هذه تضم ما يزيد عن عشرة مرشحين متخصصين بالاقتصاد".
من جهتها، قالت المرشحة عن قائمة "ائتلاف المحافظين"، فاطمة آليا، إن "لدى المحافظين برنامجاً اقتصادياً واضحاً مرتبطاً بتحسين معيشة الإيرانيين"، منتقدة في الوقت عينه دور الحكومة الحالية التي تنظر نحو الخارج فقط. ولهذه الشعارات، مؤيدوها في الشارع الإيراني، لا سيما أن التيار المحافظ يركز على ما يسميه ثغرات الاتفاق النووي وتنازلاته، وعلى ضرورة عدم الثقة بالغرب. وتُعَدّ سياسة لائحة المحافظين واضحة، كما تعتبر الوحدة من أبرز نقاط قوتها، بالإضافة إلى أن بعض المرشحين المحافظين بدأوا بالانسحاب لصالح هذه القائمة، منهم كل من علي أصغر غلامي، وأبو الفضل نوراني، وأحمد غلامي.
كما قرّر بعض المحافظين خوض السباق كمرشحين مستقلين، ومن هؤلاء من ينتمي لجبهات "نهج الولاية"، و"التطور والعدالة"، فضلاً عن "الثبات". ويعد "نهج الولاية" من التوجهات القوية في التيار المحافظ. وهو محسوب على رئيس البرلمان الحالي علي لاريجاني، الذي تقدم كمرشح مستقل عن مدينة قم، ولم يكن عضواً في "الجبهة المتحدة للمحافظين". وهي خطوة قُرئت بأنّ لاريجاني يسعى لنيل مقعد رئاسة البرلمان مجدداً، إذ إنّ ترشحه كمستقل قد يجعل "المعتدلين" من المحافظين، وحتى "المعتدلين" من الإصلاحيين يصوّتون له.
اقرأ أيضاً: انطلاق المعركة الانتخابية الإيرانية... والمحافظون الأكثر جهوزية
أما التيار الإصلاحي، فتُعَدّ هذه الانتخابات الأولى التي يخوض فيها أبناؤه السباق بشكل "منتعش". فخلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، انسحب مرشح الإصلاح، محمد رضا عارف ليمنح أصواته للرئيس الحالي حسن روحاني، في خطوة ضمنت عودة الإصلاحيين لمراكز صنع القرار بشكل تدريجي. فلو أبقى عارف على ترشيحه في حينها، لكانت أصوات المقترعين توزعت بين "المعتدلين" والإصلاحيين، بحسب مراقبين. وخلال الانتخابات التشريعية السابقة، أي قبل أربع سنوات، لم يكن هناك حضور واضح للإصلاحيين الذين كانوا في حالة تخبط إثر انعكاسات احتجاجات عام 2009، والتي أعقبت الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها نجاد على منافسه الإصلاحي مير حسين موسوي، فانقسم التيار الإصلاحي وغابت رموزه عن الساحة.
لكن هذا التيار الذي استبعدت لجنة صيانة الدستور عدداً كبيراً من مرشحيه لخوض السباق التشريعي، أدرك أنّه لا يمكن خوض السباق والنجاح فيه بتقديم لوائح مستقلة تمثل الإصلاحيين فحسب. فاتحدوا مع مُوالي الحكومة "المعتدلة" وبعض "المعتدلين" من المحافظين، وقدّموا قائمة "ائتلاف الإصلاحيين" التي تضم شخصيات تنتمي لأحزاب إصلاحية عدة، فضلاً عن أخرى مقربة منهم. في المقابل، تواجدت أسماء مرشحي الإصلاحيين في لوائح وقوائم ثانية، منها ما يحسب على تيار "الاعتدال". شعار لائحة "ائتلاف الإصلاحيين" هو "الأمل، الاستقرار، التطور الاقتصادي". ويعد محمد رضا عارف من الأسماء الأولى فيها. كما تضم الإصلاحي الياس حضرتي، بالإضافة إلى النائبَين الحاليَّين: علي مطهري وكاظم جلالي وغيرهما.
ويبدو من خلال تصريحات المرشحين عن هذه القائمة أنّ همهم الأساسي هو دعوة المواطنين لصناديق الاقتراع. فأزمة الثقة التي نتجت من احتجاجات عام 2009، كبّدت الإصلاحيين الخسارة الفادحة في الانتخابات التشريعية الماضية. لكن الدعوة ذاتها خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، واستجابة المواطنين لها ساهمت بعودتهم إلى المشهد السياسي، وإنْ كان الأمر نسبياً.
وعلّق عارف على دمج مرشحين إصلاحيين بآخرين من تيارات ثانية قائلاً، إنّه "لم يكن هناك إمكانية لتقديم لوائح منفصلة، وكان من الضروري اتباع سياسة محددة لفتح طريق لعودة الإصلاحيين إلى البرلمان".
أما التيار الثالث الذي يخوض هذا السباق بقوة فهو "الاعتدال"، الذي تعززت قدرته بعد وصول روحاني إلى سدّة الرئاسة. اتحد رموز هذا التيار مع الإصلاحيين في بعض اللوائح ومع المحافظين في لوائح أخرى، ومع كليهما في أحيان ثانية. تكرّرت أسماء عدد من مرشحيه في لوائح عديدة، وهو ما قد يضمن فتح الطريق واسعاً أمامهم نحو مقاعد أكثر في البرلمان. من هذه اللوائح؛ جبهة "المستقلين والمعتدلين" والتي تحمل شعار، "لا للإفراط، لا للتفريط، والتبعية لخط الإمام المرشد". وتضم كلا من محمد رضا عارف، علي مطهري، فضلاً عن الإصلاحي مصطفى كواكبيان، والمحافظ محمد حسن أبو ترابي فرد وغيرهم. ويضاف إلى لوائح "الاعتدال"، جبهة "التدبر وتنمية إيران الإسلامية" التي ترفع شعار "التدبر، برلمان معتدل، تنمية اقتصادية". ويعد مطهري وكواكبيان والياس حضرتي من أبرز مرشحيها المكررة أسماؤهم في لوائح عدّة.
كما أنّ هناك جبهات أخرى لم تقدم نفسها لا تحت راية المحافظين ولا الإصلاحيين أو "المعتدلين"، ولا كمرشحين مستقلين، وفي مقدمتهم جبهة "صوت الشعب" التي يقودها النائب الحالي علي مطهري. هذا الأخير كان محسوباً على المحافظين وكان من أشد منتقدي نجاد. تحوّل إلى أعتى منتقدي المحافظين المتشددين، بل وطالب علناً في البرلمان برفع الإقامة الجبرية عن رموز الإصلاح؛ مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، وهو ما جعله عرضة للانتقادات الحادة على الرغم من تحفظه على بعض سياسات الإصلاحيين. أسس الرجل جبهته هذه التي تضم مرشحين من عدد من التيارات، وهم مقربون من رؤيته السياسية ورفعوا شعار "برلمان أفضل بمشاركة أكبر".
اللافت في هذه اللائحة، أنها لم تضم اسم الإصلاحي محمد رضا عارف، بينما وضع اسم مطهري في لائحة "ائتلاف الإصلاحيين". وعلّق مطهري نفسه على الأمر، مشيراً إلى أنّ الإصلاحيين هم من طلبوا وضع اسمه في قائمتهم. لكنه في المقابل لم يكن يريد لـ"صوت الشعب" أن تصنف كمحافظة أو إصلاحية، فوضع اسم عارف فيها، ما يعني تصنيفها. واعتبر أنّها جبهة تحاول الابتعاد عن نقاط ضعف الأصوليين من قبيل عدم مراعاتهم لحرية التعبير والحقوق المدنية، وعن مشاكل الإصلاحيين من قبيل تساهلهم في القضايا الثقافية والاجتماعية.
وقال مطهري، إنّ الإيرانيين يحتاجون لتوجه واضح وجديد يتموضع بين الاثنين.
وبالإضافة إلى كل هذه القوائم، توجد لوائح أخرى من قبل جبهة "مجاهدي إيران الإسلامية"، و"ائتلاف المتخصصين والمهندسين"، وجبهة "الاتحاد الوطني والانسجام الإسلامي"، وكلّها تضم أسماء مشتركة بين التيارات جميعها وتغلب عليها أحياناً صفة "الاعتدال". وعلى الرغم من اختلاف موازين القوى بيد كل تيار أو جبهة، يبدو أنّ السباق الانتخابي لن يكون سهلاً هذه المرة وحسم نتائجه سيكون صعباً. لذا يعمل كل تيار على التركيز على نقاط قوته علّه يحتل غالبية مقاعد البرلمان.
اقرأ أيضاً الانتخابات الإيرانية: سباق مبكر محموم بين التيارات الثلاثة