أطلقت كوريا الشمالية صاروخاً باليستياً تجريبياً في 7 فبراير/شباط الحالي. حلّقت مقاتلات عسكرية أميركية فوق سماء كوريا الجنوبية لتحذير الجار الشمالي. حُكي عن نصب الدرع الصاروخي الأميركي "ثاد" في شبه الجزيرة الكورية. أبدت الصين قلقها على لسان وزير خارجيتها، وانغ يي، من الخطوة الأميركية، قائلاً إنها "قد تُستخدم لاستهداف الصين". لم تعد روسيا وحدها "قلقة" من الحراك العسكري الأميركي، بل الصين أيضاً.
تكمن أهمية نصب الدرع الصاروخي في كوريا الجنوبية، في انخراطها وسط صراع خماسي بين روسيا واليابان والكوريتين والصين، في تلك المنطقة من العالم، خصوصاً مع توتر الوضع الروسي ـ الياباني حول جزر (ساخالين وفقاً للروس)، وبين كوريا الشمالية وكلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية. قد لا يعود الوضع إلى ما كان عليه أيام الحرب الكورية (1950 ـ 1953)، إلا أنه من المؤكد أنه رفع التوتر إلى مستويات غير مسبوقة في الشرق الآسيوي، منذ انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
لم تكن التجربة الكورية الشمالية جديدة، غير أنها جاءت في وقتٍ يتسابق فيه الجميع إلى التوّرط عسكرياً في سورية، وليبيا لاحقاً. ووفق أبسط المبادئ العسكرية، فإن ميكانيكية الأحداث تؤدي حكماً إلى استنفارٍ ما في مختلف القواعد العسكرية عالمياً. بالنسبة إلى الأميركيين فإن الدرع الصاروخي يُشكّل امتداداً لترسبّات الحرب الباردة. ليس من السهل إقناع الأميركيين بسحب عتادهم العسكري. بالنسبة إليهم يعملون على قاعدة أن "الحروب لا تنتهي، بل تمرّ بِهِدَن مرحلية"، مستمدين الدروس من الحربين العالميتين الأولى (1914 ـ 1918) والثانية (1939 ـ 1945)، لناحية الدور الألماني الرئيسي فيهما. يعكس الأميركيون ذلك على خصميهم التقليديين: روسيا والصين.
في العلاقة مع الروس، لا تزال صورة ازدحام صواريخ "بيرشنغ" الأميركية، و"إسكندر" السوفييتية، على الرقعة الأوروبية الصغيرة، ماثلة في الأذهان. تلك الصورة أدت لاحقاً إلى طرح الأميركيين عام 1999، فكرة نشر منظومة الدرع الصاروخي، أو النسخة المجددة والمتحركة من منظومة "بيرشنغ"، في أوروبا الشرقية، أي مواقع نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق. وذلك في عهد الرئيس الديمقراطي، بيل كلينتون.
اقرأ أيضاً: كوريا الجنوبية وأميركا تبحثان نشر منظومة دفاع صاروخي متقدمة
بالطبع مانعت روسيا ذلك، وحين رأى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن الأميركيين جدّيون في نصب المنظومة الجديدة، سأل عن السبب في ذلك. جاءه الجواب "إيران"، فاقترح فوراً نصب تلك المنظومة في العاصمة الأذرية باكو، لوقوعها جغرافياً بمحاذاة إيران، ولا تُشكّل أية منظومة صاروخية أميركية فيها خطراً على روسيا. لم يرد الأميركيون، لا بل اتفقوا مع إيران نووياً أخيراً، مما يعني انتفاء توجيه المنظومة ضدها، وهو ما رفع من مستوى التحرّكات العسكرية الروسية في عددٍ من بلدان النفوذ السوفييتي السابق. الدرع الصاروخي كان "الحجّة" التي أرادها بوتين لتحقيق أحلامه التوسّعية، مع العلم بأنه في عام 2001 أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، أن "المنظومة لن تحمي أراضي الولايات المتحدة فقط، بل أراضي البلدان الحليفة لها أيضاً".
على المقلب الآخر من العالم، اعتادت الصين على مواجهة الأميركيين تقنياً أو مالياً، في تايوان أو جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي، وحتى أنه في ملف كوريا الشمالية، لم تصل الأمور إلى الحدّ الذي وصلت إليه علاقة روسيا بالولايات المتحدة. غير أنه مع إعلان الأميركيين احتمال نشر الدرع الصاروخي هناك، بدأت تنتاب الصين مخاوف من إمكانية تحوّل شبه الجزيرة الكورية إلى بؤرة نزاع، لا يتحمّلها التنين الصيني، الذي بدأ يستنهض نفسه اقتصادياً، بعد أشهر مريرة مالياً.
أما الدرع الصاروخي الأميركي نفسه، فيتمحور بشكل أساسي على منظومة "ثاد"، التي صمّمتها شركة لوكهيد مارتن في عام 1987، ودخلت الخدمة عام 2008. يُشكّل "ثاد" الجيل الأفضل من أجيال الدفاعات الأميركية السابقة، ويُمكن له اعتراض أي صاروخ باليستي بنسبة عالية. توظّف الولايات المتحدة في خدمة "ثاد" تشكيلة واسعة من أجهزة الإنذار والرصد. كما تتوزّع رقعة المنظومة حول العالم كالتالي: ولايتا ألاسكا وكاليفورنيا (محطة رادار وصواريخ اعتراضية في كل منهما)، و21 صاروخاً في قواعد بحرية في المحيط الهادئ (الباسيفيك)، ومحطة رادار في منطقة غرينلاند الدنماركية على تخوم كندا، ومحطة رادار في إنجلترا، ومحطة إنذار مبكر في تركيا، ومحطة رادار في اليابان، مع تداول أحاديث عن مخططات لوضع صواريخ اعتراضية في بولندا، ووضع منظومة دفاع جوي مخصص لدول مجلس التعاون الخليجي. عدا الانتشار في هذه المواقع الجغرافية، يتم الحديث بشكل غير رسمي، عن وجود محطات إنذار أميركية في تايوان وإسرائيل، من دون وجود أي تأكيد على ذلك. فضلاً عن ذلك بوشر في عام 2013 بناء قواعد في رومانيا يُفترض أن توضع فيها الصواريخ الاعتراضية، ومحطات الرادار. ومن المقرر أن يبدأ بناء مثل هذه القواعد في عام 2016، على أن ينتهي في غضون عامين. أما المركز الرئيسي، الذي يتمّ التنسيق فيه لتلك المنظومة فيقع في باكلي، في ولاية كولورادو الأميركية.
أهمية النشاط العسكري العالمي لن تتوقف قريباً، فميزانية الولايات المتحدة العسكرية تضاعفت أخيراً، خصوصاً في الشقّ الأوروبي، مع العلم بأن الولايات المتحدة قد انسحبت عام 2002، ومن جانب واحد، من معاهدة الدفاع ضد الصواريخ، الموقّعة في عام 1972 بينها وبين الاتحاد السوفييتي، والتي كانت تفرض قيوداً جدّية على نشر منظومات الدفاع ضد الصواريخ. كما أن روسيا من جهتها، ورغم تردّي وضعها الاقتصادي، لا تزال تحافظ على الوتيرة المتصاعدة لإنتاجها العسكري، مرفقة بجموح عسكري في بحر البلطيق والشمال الأوروبي وصولاً إلى القطب الشمالي، عدا شبه جزيرة القرم الأوكرانية وسورية. الصين التي دخلت الخطة الخمسية الـ13 لها مطلع العام الحالي، وضعت نصب عينيها خفض عديد جيشها الـ2.3 مليونَي بنسبة 300 ألف، رافضة، بحسب ما يفيد مسؤولوها، فكرة "التوسّع والهيمنة"، في إشارة إلى استعدادها الضمني لمعالجة مشكلتي هونغ كونغ وتايوان وحتى جزر سبراتلي.
اقرأ أيضاً: صاروخ كوريا الشمالية يستنفر العالم: مجلس الأمن يهدد بعقوبات