لكن قد يكون من المبكر التكهن بتأثيرات الخطوة الروسية على الوضع العسكري في سورية. فالغارات الروسية الرئيسية متوقفة بفعل الهدنة التي أنهت أسبوعها الثاني منذ أيام، والقوات الروسية ستبقى في قاعدتي حميميم وطرطوس، كما كانت قبل الإعلان عن التدخل الروسي المباشر، في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي. كذلك، فإن روسيا أعلنت أنها ستمضي قدماً في "محاربة الإرهاب" في سورية، ما يعني أن أهمية خطوة روسيا في "إعلان تحقيق الأهداف وسحب القوات" رمزية أكثر من أي شيء آخر، في ظل توقف الهجمات مع عدم استبعاد قيام الطيران الروسي بهجمات جوية، متى ما شعر بالحاجة لذلك.
اقرأ أيضاً: 5 سنوات من الثورة السورية... روح لم تنطفئ
حققت روسيا بعض أهداف تدخلها في سورية. فقد منعت انهيار نظام الأسد، والذي كان وارداً قبيل 30 سبتمبر. كما أن روسيا أثبتت للولايات المتحدة، وحلف شمالي الأطلسي تحديداً، أنها قادرة على الدفاع عن مصالحها عسكرياً، في كل مكان، حتى بعيداً عن "حديقتها الخلفية" كما فعلت في أوكرانيا وجورجيا. روسيا، التي ردت بقوة على محاولات الأطلسي والاتحاد الأوروبي التمدد شرقاً باتجاهها وثبتت وجودها في أوكرانيا باستخدام قوة عسكرية ضاربة، تدخلت عسكرياً في سورية لتظهر قابليتها التدخل من أجل حماية مصالحها الاستراتيجية، حتى بعيداً عن حدودها المباشرة. فروسيا تعتبر نفسها الوريث الشرعي لكل مناطق الاتحاد السوفييتي وكل تحالفاته، بما في ذلك سورية، إحدى مناطق النفوذ التاريخية للاتحاد. ويضاف إلى كل ذلك، أن القوات الروسية تملك قواعد لها على البحر المتوسط، منذ عقود. وبالتالي، فإن روسيا، من خلال تدخلها في سورية، عززت ضمان استمرار إطلالتها على "المياه الدافئة". كما أن الخطوة الروسية، إن كان بانطلاق العمليات العسكرية أو إيقافها الآن، جاءت لتضع الوجود الروسي في سورية، شرق المتوسط، فوق أي تسوية أو نقاش، الآن أو مستقبلاً.
من جهة ثانية، لا يمكن القول إن إيقاف روسيا لعملياتها في سورية كان متوقعاً، بل كان مفاجئاً وسيغير في موازين اللعبة في سورية بصورة كبيرة. ويأتي اعتبار الانسحاب الروسي مفاجأة كنتيجة مباشرة لعدم الثقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإلا فإن الأخير صرّح منذ بدء العمليات في سبتمبر الماضي، أن التدخل الروسي محدود ولن يطول، في الوقت الذي بدأ فيه الحديث عن "حرب بالوكالة" و"تجربة أفغانستان" بالشيوع على نطاق واسع.
كما أن الأهداف التي أعلنها الروس بدايةً كعناوين عامة لتدخلهم في سورية وشملت دعم نظام الأسد، و"محاربة الإرهاب"، تحققت بصورة أو بأخرى، ولا سيما بعدما استغلت روسيا هذه الذرائع لاستهداف مناطق المعارضة بشكل ممنهج لا ما يُصنف دولياً كجماعات إرهابية، مثل تنظيم "داعش" وجبهة النصرة. الأمر الذي انعكس في استعادة نظام الأسد لكثير من الأراضي التي خسرها لصالح المعارضة، ولا سيما في ريف حلب وريف اللاذقية.
في موازاة ذلك، فإن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) فقد زمام المبادرة في سورية. وقدّرت مصادر أميركية قتلى التنظيم بقرابة الألف مقاتل في الغارات الروسية و1700 مدني سوري، بينما تحدث وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، عن "مقتل ألفي مقاتل من داعش و17 قائداً ميدانياً من مواطني روسيا"، في إشارة إلى مواطني جمهوريات الاتحاد السوفييتي. لكن الأمر الذي قد يبدو مثيراً للسخرية كيف تمكن الطيران الروسي من التأكد ما إذا ما كان المسلح المستهدف، الذي يقاتل في صفوف "داعش" ينتمي إلى جمهوريات القوقاز.
أما في ما يخص موقف الأسد التفاوضي، فإعلان الانسحاب الروسي، بعث برسائل متناقضة عن وإلى الأسد، لتبدو وكأنها "رغبة من بوتين لمعاقبته".
فمن ناحية، ساهم التدخل الروسي في تحسين موقف الأسد التفاوضي، من خلال إعادة التوازن إلى ساحات القتال في سورية. ومن ناحية أخرى، جاء إعلان الانسحاب الروسي، متزامناً مع بدء المفاوضات في جنيف، ما يعني أيضاً أنّ موسكو تريد أن تضغط على الأسد للقبول بتسوية سياسية، ولا سيما مع ظهور مؤشرات على خلافات روسية سورية، منها "توبيخ" الجانب الروسي للأسد إثر تأكيده السعي إلى "استعادة كامل التراب السوري" تحت سلطته، وإصرار النظام على إجراء انتخابات مجلس الشعب، في أبريل/ نيسان المقبل، الأمر الذي اعتبرته روسيا بأنه لا يساعد على نجاح المفاوضات السياسية. كما أن تصريحات وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، الأخيرة، باعتبار "مقام الرئاسة خط أحمر" كانت بمثابة ذروة إفراغ التسوية السياسية من أي معنى. وفي السياق، يأتي نفي الرئاسة السورية المباشر، وجود أي خلاف مع موسكو، إثر إعلان بوتين سحب القوات الروسية، وكأنه إثبات لهذا الخلاف.
اقرأ أيضاً: حزب الله والانسحاب الروسي...الوجود العسكري في سورية لن يتأثّر
في موازاة ذلك، يظهر أن روسيا أعادت من خلال سحب قواتها العبء العسكري الأكبر إلى النظام السوري وحلفائه، سواء إيران، أو حزب الله اللبناني أو المليشيات العراقية التي لا يزال بعضها يقاتل في سورية، على الرغم من انسحاب جزء منها لمحاربة "داعش" في الأراضي العراقية. وكان التدخل الروسي في سورية قد ترافق مع انكفاء إيراني واضح يتوقع أن ينتهي الآن، وأن تحاول طهران العودة لإعادة ملء الفراغ.
في غضون ذلك، يبقى من الصعب نفي أو إثبات وجود صفقة روسية أميركية أدت إلى سحب القوات الروسية من سورية، لكن لا يبدو أن هناك ملامح اتفاق، ولا سيما مع تصريحات المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بأن البديل عن مفاوضات جنيف السياسية هو الحرب.
البديل الروسي - الأميركي في سورية، كان تقسيم البلاد من خلال الحديث عن نظام فدرالي، وهو الخيار الذي لوح به المسؤولون الأميركيون والروس، ثم قاموا بسحبه، كما في تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الأخيرة، والتي نفى فيها وجود "الخطة ب" من الأساس.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل تجديد العميد أحمد عسيري، المستشار في وزارة الدفاع السعودية، أمس الثلاثاء، تلويح السعودية بالتدخل البري في سورية لمحاربة تنظيم "داعش" في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. الخطوة التي كان أبرز عوائقها، التدخل الروسي في سورية، قد تنتعش بعد إعلان موسكو سحب قواتها. يوجد عاملان رئيسيان كانا بمثابة عائق أمام أي تدخل من هذا النوع: التدخل الروسي، وغياب الإرادة الأميركية. ويرتبط الأمران بتجنب صدام ما بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في سورية، بعدما كانت وصلت احتمالاته للذروة لحظة إسقاط تركيا، العضو المؤسس في الحلف، لطائرة روسية، ثم انخفض لحدوده الدنيا مع إعلان الرئيس الروسي الانسحاب من سورية. تشير هذه التطورات إلى أن إقناع الولايات المتحدة، بالقيام بتقديم غطاء سياسي ودعم عسكري لتدخل برّي ضد تنظيم "داعش" في سورية، بات أسهل اليوم بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع في ذروة العمليات الروسية في سورية.
إلى ذلك، يرى مراقبون غربيون أنّ من الأهداف الروسية الأساسية الذي تم تحقيقها في سورية، استخدام سورية كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية والعقوبات الدولية على موسكو، والتي سيعاد النظر فيها بعد أشهر. يضاف إلى ذلك هدف جانبي يتمثل في قيام القوات الروسية بتجربة أسلحة حديثة ما يقود إلى تطويرها من جهة وتعزيز مبيعاتها في المستقبل من جهة ثانية. كما أن هناك من يربط بين أزمة الاقتصاد الروسي وإعلان موسكو قبل أيام خفض نفقاتها العسكرية بنسبة 5 في المائة (هو الخفض الأكبر منذ تولي فلاديمير بوتين السلطة في الكرملين للمرة الأولى في العام 2000) وبين سحب القوات من سورية. لكن يستبعد مراقبون غربيون هذا الأمر.
اقرأ أيضاً كيري: لحظة مهمة بمسار الأزمة السورية مع قرار الانسحاب الروسي