لم تتوقف مساعي الاحتلال الإسرائيلي لتهويد مدينة القدس. منذ أيام الاحتلال الأولى بعد نكسة يونيو/حزيران في عام 1967، قام بالعديد من الحفريات بحثاً عن موجودات أثرية تدعم الأساطير اليهودية. ومع أن العمليات الأولى للاحتلال في هذا السياق، شملت تدمير حي المغاربة وسوق المغاربة عند حائط البراق، وإقامة ما يُسمّى بساحة "حائط المبكى"، وكانت ظاهرة للعيان، إلا أنها رافقتها نشاطات أخرى تحت ستار حملات التنقيب الأثرية فوق سطح الأرض، وحملات تنقيب أخرى تحت سطح الأرض، بقيت طيّ الكتمان.
في هذا السياق، يكشف تقرير موسّع لصحيفة "هآرتس"، عن "المدينة السفلى" للقدس، وهي مدينة بحسب معدّ التقرير نير حسون، "خالية من العرب والمسلمين وآثارهم التاريخية التي يتمّ تهويدها بمجرد العثور عليها والاصطدام بها، لدرجة أن الحمام المملوكي الذي عُثر عليه تحت الأرض، أُطلق عليه اسم: الرحلة إلى أورشليم. أما الخان المملوكي، فقد تحوّل إلى القاعة التي تقع خلف حائط المبكى".
كما يلقي تقرير "هآرتس" الضوء على ما يصفه بأنه "مدينة كاملة تحت الأرض مكونة من الأنفاق والممرات السرية، والفضاءات الجوفية التي تحولت إلى قاعات للصلاة، ومتاحف وحتى قاعات عامة"، وكلها، بحسب حسون، "يهودية، وخالية، لا ترى فيها عربياً أو مسلماً أو مسيحياً".
وعن نقطة التحول الرئيسية في سياسات الحفر والتهويد التي يتبعها الاحتلال تحت الأرض، يشير التقرير إلى أن الأمر بدأ عملياً في سبتمبر/ أيلول 1996، عند فتح ما يُسمّى بـ"نفق الهيكل"، من قبل رئيس بلدية القدس المحتلة، آنذاك، إيهود أولمرت، بحضور عرّاب تهويد المدينة إيرفينغ موسكوفيتش، وبرعاية رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، في ولايته الأولى.
ووفقاً للتقرير، فإن كل ذلك مرتبط بالنشاط الاستيطاني الهائل لجمعية "إلعاد"، وما يُسمّى في هذا السياق، بـ"الحديقة التوراتية"، التي يعكف الاحتلال على تطويرها في سلوان، جنوبي البلدة القديمة والمسجد الأقصى. وتتمّ الحفريات وتنطلق عملياً من موقع داخل الحي التوراتي في سلوان، باتجاه ساحة البراق، ومنها تتفرّع عمليات الحفر والتنقيب، لتصل أيضاً إلى الأحياء الإسلامية داخل البلدة القديمة، بمحاذاة درب الآلام "فيا دو لوروزا"، حيث المخرج الشمالي لنفق البراق، في باب الواد، الذي أُعلن عن فتحه في عام 1996، وأدى ذلك إلى اندلاع انتفاضة النفق في حينه.
وتوضح صورة نشرتها الصحيفة لمسارين أساسيين من الأنفاق والطرق الممتدة تحت الأرض، التي تُشكّل الإطار العام لخريطة "المدينة تحت الأرض"، الواقعة أساساً تحت الأحياء العربية في القدس المحتلة. وتكشف الخريطة أن أعمال حفر نفق القناة الكنعانية، تبدأ من سلوان وصولاً إلى ساحة البراق ونفق البراق.
وتشير الخريطة أيضاً إلى وجود المتاحف التاريخية اليهودية تحت الأرض، غربي حائط البراق، كما لوحظ وجود نقاط حمراء تشير إلى تجويفات وقاعات تحت الأرض، في منطقة الباب الجديد، في البلدة القديمة، القريب من شارع "يافا"، وفي وقف مقبرة مأمن الله، وفي الكهف الكبير عند باب العامود المسمى بالقاموس الصهيوني اليهودي، ناهيك عن تجويفات وقاعات تحت الأرض تقوم بعضها تحت كنيسة القيامة، وأخرى مثل البركة التوراتية، تحت كنيسة راهبات صهيون.
ويتضح من المخططات التي يشير إليها التقرير، أن "النية تتجه في نهاية مشروع الحفر والتنقيب، والبناء المرافق لهما، للوصول إلى وضع تكون فيه تحت البلدة القديمة من القدس، شبكة من الأنفاق والممرات والقاعات، التي يتم العثور عليها وتحويلها لأماكن عامة، على أن يتم استئجارها من قبل كبار المتبرعين اليهود. أي مّمن تبرّعوا بـ36 ألف دولار وأكثر، لإقامة طقوس دينية مثل طقوس بار متسفا للفتية اليهود، عندما يبلغون سن التكليف بالفرائض الدينية اليهودية". وهي قاعات بات بعضها جاهزاً للاستخدام، وتقع تحت بيوت فلسطينية في الحي الإسلامي، تمّ الوصول إليها عبر الحفر من "مواقع يهودية"، يسيطر عليها المستوطنون، كما في موقع كنيس "عطيرت كوهنيم" في عقبة الخالدية، حيث تمّ حفر أرضية المكان والنزول لأعمال حفريات تحت البيوت الفلسطينية، بحثاً عن ممرات مائية وأنفاق تاريخية قديمة.
وتنقل الصحيفة عن عالم آثار إسرائيلي، مناهض لمخططات الحفريات تحت القدس، وهو جدعون سليماني، قوله: "نتحدث هنا عن مشروع حفريات ضخم، مخفي عن الجمهور، باستخدام طرق حفر قديمة، من دون قيود ومن دون حدود. وهذه حفريات لا علاقة لها بالبحث العلمي، ولا جدول زمنياً محدداً لها أو مناطق محددة، لقد بنوا مدينة تحت الأرض". مع العلم أن رايخ نفسه يعتبر أن "أعمال الحفريات تحت مسمى كشف طريق هورودوس، هي حفريات لأغراض سياحية أو سياسية، وربما سياسية وبعدها سياحية لأنها لا تفيد شيئاً في المجال العلمي، فمسار الطريق الرومانية في القدس معروف".