يحيي الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، اليوم، الذكرى الثامنة والستين على النكبة الفلسطينية، في ظروف لا تقلّ سوءاً عن الأولى، من حيث ضعف الأداء السياسي الرسمي الفلسطيني، ونهب الأراضي وتهجير سكانها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، إذ لا تزال الأراضي الفلسطينية المحتلة تشهد نكبات صامتة، وسط غياب إعلامي، ما يجعل النكبة مستمرة، وبشكل يومي.
يبدو المشهد على الأرض قاتماً. الفلسطيني الذي يحيي هذه الذكرى وبوصلة قلبه تشير إلى يافا وحيفا ومئات القرى الفلسطينية المدمّرة التي احتلتها إسرائيل عام 1948، يتمسك، اليوم، بكل ما أوتي من قوة، بما تبقى له من أرض، وحيداً إلّا من عزيمته حتى لا تتكرر تلك النكبة المؤلمة. ويدرك الفلسطينيون تماماً أنه في ظل غياب الأداء السياسي الفلسطيني الفاعل على الأرض، فإن الصمود هو كل ما يملكونه على الرغم من استمرار سلطات الاحتلال في مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وهدم تجمعات سكانية، وطرد الأهالي من الأراضي التي من المفترض أن العالم اعترف بها لتكون دولة فلسطين المقبلة على الأراضي المحتلة عام 1967.
ويرى خبراء في شؤون الاستيطان أن سلطات الاحتلال تهدم كل عام ما يعادل قرية فلسطينية، وأن المشروع الاستيطاني، وتهويد الأراضي الفلسطينية لم يتوقف منذ اتفاقية "أوسلو" عام 1993. بل إن الأسوأ أن هذه الاتفاقية خلقت مظلّة للإسرائيليين للاستمرار بسرقة الأرض وتهويدها، إذ تغافل الاحتلال عن بند يمنع الاستيطان، ما جعل المستوطنات تستشري في الأراضي الفلسطينية بعد مرور 23 عاماً على توقيع الاتفاقية.
ويقول الخبير في شؤون الاستيطان، المفاوض السابق في اتفاقية أوسلو، الدكتور عبد الله حرزالله، لـ"العربي الجديد" إنّ "سلطات الاحتلال تقوم، سنوياً، بهدم مبانٍ بمعدل قرية فلسطينية". أما الصحافي فادي العاروري الذي يعمل على تغطية المناطق المصنّفة "ج" منذ سنوات، يؤكد أنّ "ما بين تجمعات أم الخير أقصى جنوب الضفة الغربية المحتلة وطانا شمالها، هدمت قوات الاحتلال 600 منشأة فوق رؤوس أصحابها خلال هذا العام".
وبينما تظهر هذه المعطيات كيف تعكف قوات الاحتلال على سحب الأرض من تحت أقدام أصحابها بالقوة والتحايل والتضليل يومياً، تأتي ذكرى إحياء النكبة لتأخذ طابعاً احتفالياً من قبل المؤسسات والهيئات شبه الرسمية، فيما اكتفى المستوى الرسمي والفصائل الفلسطينية بإصدار البيانات، تاركاً المواطن يقاوم وحيداً نكبة جديدة.
ويشير حرزالله إلى أنّ "إحياء الذكرى يجب أن ينتقل من الخطابات إلى الفعل، إذ يجب تحويل الأموال للعمل على التخلّص من الاحتلال وليس لإحياء الذكرى فقط"، مضيفاً أنّ جزءاً كبيراً من المشكلة يتمثل في القيادة الفلسطينية، وهذا ينعكس بشكل محبط على الشعب الذي بات بحاجة إلى جهد كبير لتوعيته، ودعم قدراته لمقاومة الاحتلال".
ويرى حزرالله، كغيره من المختصين بشؤون الاستيطان ومصادرة الأراضي أن "النكبة الفلسطينية مستمرة، والأداء السياسي الفلسطيني ضعيف، لذلك هناك حاجة كبيرة وملحّة، اليوم، للقيام بجهد فعلي كبير لإنهاء النكبة التي بدأت 1948، والتصدي لمحاولة إسرائيل شرعنة ممارساتها". ويلفت إلى أن "سلطات الاحتلال دأبت على أخذ الشرعية من الأمم المتحدة، لكنها هذه المرة تحاول الحصول عليها من العرب عبر الاعتراف بها من دول عربية، فضلاً عن محاولة تحدي الفلسطينيين أنفسهم وانتزاع شرعية المستوطنات منهم"، على حدّ تعبيره.
وتتزامن فعاليات الاحتلال بإقامة دولته في الأيام التي يحيي فيها الفلسطينيون ذكرى النكبة، ليكون الشعار الأمثل "استقلالهم نكبتنا". وما يثير إحباط وغضب آلاف الفلسطينيين رؤيتهم لملايين أعلام الاحتلال مرفوعة على أعمدة الكهرباء في الطرق الخارجية، وعلى سيارات الإسرائيليين في "احتفاء" فجّ يذكّر الفلسطيني أن جميع طرقات الضفة الغربية المصنّفة "ج" تخضع لسيادة وإدارة الاحتلال مباشرة. وما هو أكثر إيلاماً، أنّ هذه الأساليب تجبر الفلسطيني على التنقل عبر هذه الطرقات بأكبر قدر ممكن من الهدوء، وكأنه كائن غير مرئي، وعليه أن يغصّ بالمشاهد الاحتفالية لأعلام العدو، ولا يستطيع رفع علمه حتى لا يُعاقب أثناء مروره بعشرات الحواجز العسكرية الإسرائيلية المنتشرة على هذه الطرقات.
ولا يمكن الحديث عن النكبة بمعزل عن "أوسلو" التي قامت على أساس التنازل عن 78 في المائة من فلسطين التاريخية، وخلقت نكبات جديدة صامتة على ما تبقى من أرض. ويعتبر حرزالله أنّ "بعض المفاوضين الفلسطينيين أثبتوا ضعفاً، والبعض الآخر كان يدرك حجم المأساة، فضلاً عن أنّ الأداء الفلسطيني في تطبيق أوسلو كان سيئاً، إذ صمتوا على مدار سنوات طويلة عن كل الخروق الإسرائيلية للاتفاق. وكان الأجدى بكل المسؤولين الفلسطينيين التوقف عن تطبيق الاتفاقية مقابل كل خرق إسرائيلي، لكن هذا الأمر لم يحدث"، وفقاً للخبير ذاته.
ويوضح حرزالله أنّ "من كان يعمل على تطبيق الاتفاقية فلسطينياً كان خائفاً على مصالحه، ولا يزال حتى الآن. لذلك نحن بحاجة إلى تغيير الأشخاص المشرفين على أوسلو جميعهم، وتشكيل طاقم جديد لديه قدرة وإمكانية أكثر، فضلاً عن جلب قيادات جديدة غير مرتبطة بمصالح مع الدول الغربية والاحتلال ويمكن محاسبتها، على عكس قسم كبير من الموجودين حالياً".
هذا الواقع يبرّر ابتعاد المستوى الرسمي وانفصاله عن الشارع في ما يتعلق بإحياء ذكرى النكبة بممارسات عملية، لتبقى هذه الذكرى حاضرة شعبياً وتعكس رسوخها بازدياد أعداد المواليد الفلسطينيين الجدد الذين يحملون اسم "يافا، وكرمل، ومجدل، وبيسان"، أو المحال والمراكز التجارية التي طبعت الأسماء ذاتها، لتبقيها حاضرة في الذهن الجماعي، وتحديداً في المخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة.
ولعلّ الشارع بات يدرك أن القيادة لا تملك إلّا دعوته للتحرك مع بقائها صامتة، كما كان الأمر عندما دعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في 4 إبريل/ نيسان الماضي، المواطنين "إلى عدم استخدام الطرق الفرعية والتوجه بسياراتهم إلى الطريق الرئيسي لكسر قيود الحركة التي تحاول قوات الاحتلال فرضها على المواطنين ومنعهم من استخدام الطريق الرئيسي عبر ما يسمى حاجز حوارة". ولم يحظ هذا النداء بأي تفاعل شعبي، إذ يطلب أعضاء التنفيذية الذين يملكون بطاقات"VIP" (تسمح بمرور الشخصيات المهمة)، من الناس مواجهة الحواجز العسكرية فيما هم يتحركون بسهولة.
ويقول المحاضر في العلوم السياسية في جامعة "بيرزيت"، أحمد جميل عزم، لـ"العربي الجديد"، إنّ "إقامة دولة فلسطينية هي أولوية القيادة الفلسطينية وليس حق العودة، كما تعمل القيادة على إحياء المفاوضات من خلال المبادرة الفرنسية الحالية". ويضيف أنّه "بشكل عام، لدينا حركة وطنية نشطة على مستوى الأفراد، مقابل انهيار الحركة السياسية متمثلة بالفصائل وقيادة منظمة التحرير، وبالتالي بات الناس يعبّرون عن أنفسهم بشكل فردي، وهذا ما تعكسه الهبة الفلسطينية التي انطلقت في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، مروراً بالنشاطات الأخرى".