لكن الدراسات والمتابعة الإسرائيلية لم تتوقف عند تقدير تداعيات الحرب والأزمة السورية في الجانب العسكري، بل امتدت لتشمل محاولة استشراف حالة سورية بعد انتهاء الصراع الدامي فيها والخراب الذي خلفته الحرب المجنونة التي يشنها النظام السوري على شعبه، مستعيناً بطيرانه وبالطيران الروسي في دك المدن السورية ومعاقل المعارضة، وآخرها الحرب المجنونة على حلب وهدم المدينة عبر القصف الجوي.
وفي دراسة نشرها أخيراً مركز أبحاث الأمن القومي، التابع لجامعة تل أبيب، ووضعها الباحث في المركز عيران يشيف، تحت عنوان "الخراب الاقتصادي في سورية، تداعيات استراتيجية"، رأى يشيف أن سورية وإن خرجت من الحرب الأهلية فإنها لن تخرج دولة متكاملة ذات قدرة على فرض تحديات على إسرائيل خصوصاً في ظل الخراب الاقتصادي الهائل الذي لحق بالدولة وعمليات الهدم المجنونة لمدن وريف سورية، بما يشكل هدم البنى التحتية لدولة كاملة.
ويعني هذا الأمر أن سورية ستخرج، ولو لأسباب اقتصادية، من معادلة الصراع ومن دوائر التهديد الاستراتيجي لإسرائيل.
ووفقاً للباحث الإسرائيلي، فإن اقتصاد سورية كان أصلاً قبل الحرب ضعيفاً، وكان الناتج القومي المحلي للفرد أقل من 3 آلاف دولار وهو الأدنى بين جاريها لبنان والأردن. كما أن اقتصاد سورية متعلق بكسل كبير بأسعار النفط (وهو يشكل نصف صادرات سورية وخمس دخل الحكومة السورية). أما الزراعة في الدولة السورية فتوفر هي الأخرى خمس الناتج القومي المحلي للدولة، وهو أكثر بكثير من الجزء المكون لإجمالي الناتج المحلي في اقتصاد الدول المتطورة.
واعتبر يشيف أن صورة سورية الاقتصادية انطلاقاً من هذه المعطيات الأساسية المكونة للاقتصاد قد تضررت أكثر فأكثر مع استمرار ويلات الحرب والدمار لدرجة لا يمكن معها إدراك دلالة معطيات الخراب الذي لحق بسورية في السنوات الخمس الأخيرة.
وقد تراجع الناتج القومي المحلي للفرد إلى أقل من ثلث ما كان عليه قبل الحرب، ما يضع سورية اليوم في المرتبة 225 من بين دول العالم لجهة تراجع اقتصادها، ليصل إلى درجة أقل من المرتبة التي يحتلها قطاع غزة، الأفقر في العالم، أو حتى أكثر الدول الأفريقية فقراً.
ويقدر فقدان سورية لإجمالي ناتجها القومي المحلي المتراكم بأكثر من 160 مليار دولار، فضلاً عن تراجع مخزونها من العملة بنحو 43 في المائة بالمقارنة مع ما كان عليه قبل الحرب. ويعني هذا الأمر أن سورية تملك اليوم أقل من نصف الوسائل (والقدرات الإنتاجية والاقتصادية) التي توفرت لها قبل الأزمة، بما يشمل ذلك من معدات وأجهزة وماكينات ومبان وباقي البنى التحتية التي تشكل الشروط الأولية للنشاط الاقتصادي لأي دولة. وتثير هذه المعطيات القلق لا سيما عندما يدور الحديث عن اقتصاد ضعيف يكتسب فيه رأس المال والبنى التحتية أهمية كبيرة للغاية.
لكن العامل الأكثر إثارة للقلق من حيث تصورات النهوض المستقبلي للاقتصاد أو منع انهياره كلياً، يتمثل في حقيقة هروب القوى البشرية أو في حركة النزوح واللجوء هرباً من ويلات الحرب. فقد تراجع عدد سكان سورية من 21.8 مليون شخص عام 2010 إلى 20.2 مليون نسمة، ناهيك عن خروج ملايين اللاجئين. وبالتالي فإن التعداد السكاني لسورية الذي كان يفترض أن يرتفع في العام الحالي ليصل إلى 25.8 مليون نسمة لولا حركات النزوح واللجوء، تراجع وقل كثيراً، عدا عن أن الدولة فقدت ما بين 150 ألفا و470 ألف سوري قتلوا في الحرب. كما قدر عدد الجرحى والمصابين في الحرب بنحو 1.8 مليون شخص، ما يعني أن 11 في المائة من سكان الدولة قد قتلوا أو أصيبوا خلال الحرب. كذلك فإن التقديرات وفقاً للمعطيات لغاية نهاية عام 2015 تتحدث عن نحو 3.1 ملايين لاجئ سوري، و1.2 مليون سوري هاجروا من وطنهم وعن 6.4 ملايين سوري اقتلعوا من بيوتهم وبلداتهم الأصلية ويعيشون داخل سورية نفسها. ولغاية اليوم، فإن نحو 85 في المائة من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر، كما تصل نسبة البطالة في سورية إلى 53 في المائة.
ويعني هذا ضربة قاصمة وقوية لقوة العمل وليس فقط لحركة المال في سورية. فقد غادر سورية الكثيرون ممن يشكلون قوة العمل فيها ومن تبقوا يعملون أقل ويتعلمون أقل بكثير وفق التقديرات المختلفة. ويعني هذا في الحسابات الإحصائية فقدان وخسارة ما يوازي 16 ألف عام دراسي في مختلف المراحل من الابتدائية وحتى الدراسية الجامعية، ما جعل تقرير منظمة "يونيسيف" يقدر الخسارة في رأس المال البشري بنحو 10.5 مليارات دولار بسبب الخسائر في تعليم الأطفال والشباب السوري.
وبعد شرح صورة الوضع الاقتصادي السوري وتداعياته على القوى البشرية ومستقبل الاقتصاد السوري، انتقل الباحث إلى قراءة دلالات هذه المعطيات استراتيجياً قبل أن يعتبر بأنها "تداعيات هائلة وكبيرة". ووفقاً لوجهة نظره، فإن سورية ومع المساعدات الخارجية (بعد الحرب طبعاً) ستحتاج إلى عقود طويلة من أجل العودة إلى النقطة التي كانت فيها عشية الحرب. وسيكون لحجم وطبيعة المساعدات التي ستحصل عليها سورية أثر بالغ في تحديد عمر عملية إعادة إعمارها والنهوض باقتصادها. علماً بأن بعض الأضرار التي لحقت بسورية تعتبر أضراراً مستديمة لا يمكن إصلاحها. وفي مقدمة هذه الأضرار عملية النزوح والهروب من الدولة، فلا يتوقع أن يعود جميع من خرجوا من سورية إبان الحرب، فضلاً عن ضياع سنوات التعليم في هذه الفترة، والضرر الذي لحق بالاقتصاد وبالثروة الإنسانية لسورية الذي سيحتاج على ما يبدو إلى مئات المليارات من الدولارات لإصلاحه.
وأشار مركز أبحاث الأمن القومي إلى تقارير صندوق النقد الدولي التي بينت أن لبنان احتاج لوحده نحو 20 عاماً حتى يعود إلى النقطة التي كان فيها اقتصاده قبل فترة الحروب التي طالت فيه نحو 16 عاماً. أما الكويت فاحتاجت إلى سبع سنوات للعودة إلى نفس معدل الناتج القومي المحلي لها قبل الغزو العراقي لها. وفي سورية التي لحقت بها أضرار تفوق ما لحق بالبلدين المذكورين، فإن تقديرات صندوق النقد الدولي تتحدث عن 20 عاماً على الأقل لتعود إلى نفس معدل الناتج القومي المحلي الذي ساد قبل الحرب (3 آلاف دولار)، وهناك تقديرات بأنها ستحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير للعودة إلى حالة الضعف التي سادتها قبل الحرب مقارنة بجاراتها (الأردن ولبنان).
وخلص يشيف في هذه النقطة إلى القول، إن النتيجة النهائية لهذا الوضع في سورية هي أنها لن تكون بعد الآن الخصم المستقر الذي نازلته إسرائيل في ميادين القتال ولا في ساحات المفاوضات. ومثل هذا الاستقرار لا يتوقع أن يعود مستقبلاً إلى سورية، وإن كانت تجربة لبنان تدلل على أنه يمكن للخصم المستضعف والمنقسم على نفسه ألا يكون "خبراً ساراً" بالضرورة، وبالتالي فإن فرص التوصل إلى تسوية سياسية مع سورية في مثل حالتها هذه قد تضاءلت بشكل كبير، الأمر الذي قد ينعكس على علاقات إسرائيل مع باقي دول العالم العربي لا سيما لبنان.