وصدر القرار الأول المتعلق بمقاطعة إسرائيل عن جامعة الدول العربية في 2 ديسمبر/كانون الأول 1945. وطالبت الجامعة يومها كل المؤسسات والمنظمات والتجار العرب برفض التعامل بالبضائع الإسرائيلية أو توزيعها أو استهلاكها. وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، تم تشكيل جهاز رسمي تابع للجامعة يشرف على عملية المقاطعة يرأسه مفوض عام. وعلى الرغم من ذلك، كانت تداعيات تلك القرارات محدودة جداً، خصوصاً بعدما وقعت بعض الدول العربية على اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وبدل أن يتم تفعيل المقاطعة انعكس المسار، إذ استبدل بتعاون اقتصادي مع الدولة العبرية.
ثم جاءت اتفاقيات "أوسلو" نتيجة عوامل عدة منها، المأزق الذي وصل إليه مسار الكفاح المسلح ليفرض البحث عن أساليب أخرى للمقاومة. في هذا السياق، تم اعتماد أسلوب المقاطعة اقتداء بتجربة جنوب أفريقيا، باعتبارها من بين أهم "الأدوات النضالية التي يمكن للشعب الفلسطيني أن يستخدمها في قيادة المعركة وأن يستعيد من خلالها التحالفات مع القوى الديمقراطية والتقدمية عالمياً، كما أنها تمنح أصدقاء الشعب الفلسطيني فرصة القيام بدور ما". هكذا ولدت مبادرات عدة، أهمها؛ "الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل"، والتي أصبحت تلخص بكلمة BDS التي تختزل ثلاث كلمات: المقاطعة، وفرض العقوبات، وسحب الاستثمارات.
ما ميّز هذه الحركة أنها ضمّت أغلب الجمعيات الناشطة في مجال المقاطعة، كما حافظت على استقلالها تجاه الحكومات أو التنظيمات الحزبية، وتجنبت الوقوع في المركزية، وأعطت للأفراد والمجموعات حرية التحرك والمبادرة وفق أوضاعها وخصوصيات البلدان التي تنتمي إليها، إلى جانب اعتمادها على مبدأ التطوع، وحافظت بذلك على استقلاليتها المالية. كما استندت الحركة في مرجعيتها إلى القرار الأممي رقم 194 الذي أكد على مشروعية "الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في إنهاء احتلال إسرائيل للأراضي العربية الفلسطينية، وتفكيك جدار الفصل العنصري، وتطبيق حق العودة".
وتعتبر حركة المقاطعة في جوهرها معركة أخلاقية من شأنها أن توفر رأس مال سياسياً ورمزياً يصلح لإعادة هيكلة الصراع ضد إسرائيل، ليس من منطق كونه صراعا عربيا إسرائيليا، بل من منظور إنساني ضد كيان معاد لحقوق الإنسان ولمبادئ العدالة والمساواة.
بعد عشرين عاماً من انطلاق هذه الحركة المدنية والسلمية، أصبح من الضروري جمع أبرز مكوناتها، وإخضاعها للتقييم، والتفكير جدياً في تفعيلها، وهذا ما قام به "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". فقد أجمع المشاركون في المؤتمر على أنّ حركة BDS أزعجت كثيراً الأوساط الإسرائيلية والصهيونية. كما أشارت الورقة المرجعية التي أعدها المركز إلى أن هذه المقاطعة أثرت على الاقتصاد الإسرائيلي بشكل مباشر، إذ وصلت خسائر المقاطعة الأوروبية لمنتوجات المستوطنات الزراعية إلى نحو 6 مليارات دولار أميركي في الفترة بين عامَي 2013 و2014. واضطرت شركة "فيتنز" الهولندية للمياه إلى إيقاف التعامل مع شركة المياه الإسرائيلية "مكوروت" التي خسرت عقداً قيمته 170 مليون دولار أميركي. وقاطع "دانس بانك"، أكبر بنوك الدنمارك، بنك "هبوعاليم" الإسرائيلي لتورطه في تمويل بناء المستوطنات.
حاول المشاركون عدم تضخيم أهمية الأضرار التي لحقت بالمصالح الإسرائيلية، باعتبار أنّه تم تعويضها بأشكال متعددة، لكنهم أشاروا إلى الخوف الأساسي لدى الأوساط الإسرائيلية الذي يكمن في البعد المعنوي لهذه الحملة العالمية، وانعكاساتها المحتملة على شرعية إسرائيل حين يتم تقديمها للعالم في صورة استعمار استيطاني واحتلالي ومناهض لكل قواعد ومبادئ حقوق الإنسان.
كما رصدت الندوة ردود فعل الأوساط الإسرائيلية في الدول الغربية الغاضبة بعد استجابة عدد من الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى لدعوات المقاطعة. ورأت في ذلك مؤشراً خطيراً على احتمال التشكيك في شرعية الكيان الصهيوني داخل الأوساط الغربية نفسها. وعلى هذا الأساس، بدأت هذه الأوساط بشن حملة إعلامية وسياسية ضد حركة المقاطعة.
في هذا السياق، استعرض بعض المشاركين أمثلة عدة من المعارك التي يخوضونها في بلدانهم، وفي مقدمتها أميركا وأستراليا. ويتخوف المدير التنفيذي لـ"المركز العربي" في واشنطن، خليل جهشان، من الاجتماع الذي يعقده الكونغرس الأميركي، في 8 سبتمبر/أيلول المقبل، للنظر في مواجهة حركة المقاطعة، واتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تأثيرها. ويلفت جهشان لـ"العربي الجديد" إلى احتمال لجوء الإدارة الأميركية، مدعومة من الكونغرس، إلى معاقبة الأكاديميين المناصرين للمقاطعة وطردهم من الجامعات، وإصدار عقوبات مالية على الشركات المقاطعة للبضائع الإسرائيلية، بحجة أن ما يقومون به يحمل طابعاً عنصريا ضد اليهود.
ويلاحظ أن الحملة الإسرائيلية تستند إلى تعمد الخلط بين اليهود وبين مبدأ المقاطعة الذي له ركائزه الحقوقية، لإثارة الخوف في صفوف الرأي العام الغربي. وحذّر بعض المشاركين من خطأ إدخال البعد الديني في حملة المقاطعة حتى لا يستغل ذلك من قبل المناهضين للحركة. وبينت مداخلات عدة أهمية المعركة القانونية التي يجب أن يخوضها المدافعون عن المقاطعة، وطالب البعض بأن يستند ذلك إلى كثير من المعرفة بالجوانب التشريعية والتمكن من الأدوات التي تساعد على كسب هذه المعركة الأساسية.
ويتهيأ الناشطون المنخرطون في هذه المعركة للتصدي لما سيقدم عليه الكونغرس، وذلك بالاستعداد لمواجهة التشريعات المقبلة، معتمدين على إبراز جوانب التعارض بين هذه القرارات المنتظرة وبين حرية الرأي والتعبير، باعتبار أن طرد أي أكاديمي بسبب موقفه من إسرائيل وسياساتها العنصرية سيعرض مبدأ حرية التعبير في أميركا لخطر حقيقي، بحسب جهشان.
على صعيد متصل، أشار مدير فرع "المركز العربي للأبحاث والدراسات" في تونس، مهدي المبروك إلى العوائق التي أثرت على حركة المقاطعة، وهي نابعة من داخل المنطقة العربية وليست من خارجها. ويتمثل العائق الأول في المفارقة القائمة بين صعود ملحوظ للدفاع عن حركة المقاطعة داخل الأكاديميين والنشطاء داخل المجتمعات الغربية، مقابل حالة انكفاء تمر بها حالياً الأوساط العربية. فالأكاديميون العرب ونشطاء المجتمع المدني منشغلون بالأوضاع المحلية، بما في ذلك في الدول التي تأثرت بالثورات العربية، مما جعل المسألة الفلسطينية تتراجع في سلم أولوياتهم.
أما العامل الثاني، فيتعلق بالخلط الذي أضرّ بالقضية الفلسطينية نتيجة تصاعد موجة الإرهاب الذي مارسته بعض الجماعات المتشددة باسم الإسلام، والذي أحدث الكثير من التشويش وأضر بالعرب وبالقضية الفلسطينية. أمّا الثالث، فيكمن في حالة الاستقطاب التي يمر بها العالم العربي والتي أثرت بوضوح على الداخل الفلسطيني بشكل ملحوظ.
وتوافق المجتمعون على نقاط عدة، أبرزها:
- التأكيد على استمرار إيمانهم بحملة المقاطعة، والدعوة إلى أهمية تفعيلها خصوصاً في ضوء السياقات الراهنة.
- التوافق على أن النقاشات النظرية وتوصيف الحالة هي التي طغت على المداخلات، ومع أهمية ذلك وما وفرته المناقشات من معطيات كثيرة، إلا أن المرحلة الراهنة تقتضي تعميق الحوار حول استراتيجيات المواجهة ووضع الخطط العملية.
- تم التسليم بأن لكل بلد له خصوصياته، وبالتالي على كل مجموعة أو شبكة الانطلاق من الظروف المحلية لتحقيق نتائج أكثر فاعلية وقوة.
- التوافق على أن المرحلة المقبلة ستكون صعبة ومعقدة بسبب الجهود التي تبذلها حالياً الأوساط الإسرائيلية لمواجهة حركة المقاطعة، وهو ما يقتضي التصدي الجماعي والفعال لتلك المحاولات بكثير من الثقة والإيمان بعدالة المعركة، إلى جانب التأكيد على أهمية توسيع فرص تحقيق مكاسب جديدة.
- اعتبار المجتمعين أن الثغرة الرئيسية في هذه الحملة غياب حركات مقاطعة قوية وفاعلة داخل المنطقة العربية. وتم في هذا السياق إبراز مخاطر الانقسام الحاصلة ليس فقط على الأصعدة الرسمية وبين الدول العربية، ولكن أيضاً داخل المجتمع الفلسطيني، إذ لا تزال السلطة الفلسطينية تتخذ مواقف مناهضة لمقاطعة إسرائيل اعتقاداً منها بأن ذلك ليس في مصلحة القضية الفلسطينية.
- التأكيد على ضرورة الربط داخل العالم العربي بين النضال من أجل تفعيل مقاطعة إسرائيل وبين المسألة الديمقراطية، لأن الفصل بين البعدين لن يخدم فلسطين وسيعطي للأنظمة الاستبدادية فرصة إضافية للمناورة واضطهاد شعوبها.
- دعوة النشطاء وشبكات المقاطعة بتجنب خلق تعارض بين المطالب المحلية لمجتمعاتهم وبين مشروعية المقاطعة، لأن أي تعارض من هذا القبيل سيكون على حساب هذه القضية.
- التأكيد على عدم التورط في التعامل مع أحزاب اليمين الفاشي بحجة كونها معادية لإسرائيل لأن ذلك من شأنه أن يؤثر على مصداقية حركة المقاطعة.
- التخوف من أنه في غياب مشروع وطني فلسطيني واضح الأهداف والمعالم، فإن معركة المقاطعة تصبح بلا أفق سياسي واضح.
- التأكيد على أن حركة المقاطعة BDS لا يمكن أن تتحول إلى حزب أو حركة سياسية تتولى قيادة الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، ولكنها قادرة على أن تكون قوة مكملة لتقوية المقاومة الشعبية على الأرض.
- الدعوة إلى إنهاء الخلافات بين مختلف الهيئات الفاعلة في مجال المقاطعة، خصوصاً داخل فلسطين، ومن أهمها "الحملة الوطنية للمقاطعة".