وقررت الجزائر منذ السبعينيات التعريب التدريجي للنظام التربوي والمدرسي، للتخلص من هيمنة اللغة الفرنسية على حساب الهوية العربية. واستكمل هذا المسار عام 1984 عند دخول نظام المدرسة الأساسي حيز التنفيذ، بعد مراجعة شاملة لهذا النظام. ومنذ ذلك الوقت، استمر الجدل حول إصلاح المنظومة التربوية، وقاد تيار يُحسب على الفرنكوفونية حملة كبيرة ضد مشروع التعريب. وأتاحت المرحلة لهذا التيار تركيز وجوده السياسي، وزيادة جرعة اتهامه للمدرسة الجزائرية المعربة بالمساهمة في تنشئة جيل عنيف وإشباعه قيماً دينية خاطئة، واتهام المدرسة بكونها المنشأ الرئيسي للإرهاب والتطرف في الجزائر. هذه الاتهامات سمحت للتيار بفرض تصورات وخطط لإصلاح النظام التربوي.
ومباشرة بعد انتخابه عام 1999، أقدم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على تشكيل لجنة وطنية تضم خبراء ومختصين، أوكلت لهم مهمة وضع تصورات وخطة لإصلاح النظام التربوي والمدرسي. لكن هذه اللجنة انتهت بعد 100 يوم من العمل إلى توصيات انحازت إلى طروحات اعتبرتها القوى الإسلامية تهديداً يحيّد المدرسة عن المنظومة الاجتماعية، والأبعاد الثقافية والحضارية للمجتمع الجزائري.
لكن الخلافات بين السلطة والأحزاب الإسلامية في ملف المنظومة التربوية بلغت ذروتها في الفترة الأخيرة منذ تولي رمعون نورية بن غبريط، وزارة التربية. في البداية، طرحت أحزاب سياسية كحركة النهضة تساؤلات عن الأصل اليهودي للوزيرة. واعتبرت أن ذلك تحولاً خطيراً في التوجهات الأساسية للدولة، وهو ما ردت عليه الوزيرة في أكثر من مرة بدعوة الأطراف التي تشكك في نسبها إلى التعقل من دون أن تخوض في ملفها الشخصي.
لكن هذا التشكيك تركز لاحقاً على مسألة ما يعرف بالجيل الثاني للإصلاحات التربوية، خصوصاً أن الأخطاء التي تضمنتها الكتب المدرسية؛ والتي تطرقت إلى خلط كبير في الهوية الدينية والمذهبية للمجتمع الجزائري، كبيرة، فضلاً عن كشف إطار كبير في وزارة التربية لمضمون الإصلاحات التربوية وتوجهاتها الخطيرة، ووجود خبراء فرنسيين يشرفون على هذه الإصلاحات. ويضاف إلى ذلك، اقتراح تقديم تعليم اللغة الفرنسية إلى الصف الثاني من التعليم، مقابل الحد من الساعات المخصصة للتربية الإسلامية، واقتراح التعليم بما يعرف بلغة الأم، أي اللغة العامية. هذه الأمور مجتمعة زادت من حدة الخلاف بين الطرفين.
واعتبر القيادي في حركة مجتمع السلم، أمين شؤون التربية ناصر حمدادوش أن وزارة التربية لا تزال وفيّة لمشروعها التغريبي بتهديد الثوابت الوطنية. وقال "بعد الإشراف الفرنسي المباشر على وضع المناهج التربوية في ما سُمّي بإصلاحات الجيل الثاني، وبعد الاستفزاز بالتدريس باللغة العامية وفضيحة البكالوريا، جاء دور الاستهداف المباشر للمواد المتعلقة بالهوية ومنها التربية الإسلامية". وأضاف "هذه الوزيرة تريد إدخال الشعب الجزائري في معركة الهوية بخلفيات إيديولوجية، وإحداث فتنة طائفية وجهوية عند وضع الممتحنين في شعبة الآداب أمام خيار بين التربية الإسلامية واللغة الأمازيغية كمادتين أساسيتين من مواد الهوية الوطنية، وفرض أجندتها التغريبية في مسخ الأجيال، والهجوم على الأبعاد الحضارية للشعب الجزائري".
وفي السياق، اعترضت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على مضمون إصلاحات الجيل الثاني. وإزاء هذه التطورات، دعت أطراف عدة إلى تشكيل ما وصفته "الجبهة الوطنية للدفاع عن الثوابت وأبعاد الهوية الوطنية"، وتشكيل مرجعية حضارية وفق الخصوصية الوطنية تتولى الوقوف ضد ما تصفه بالتوجه غير الوطني في منظومة التربية وغيرها، والتصدي لهذه الهجمة الخطيرة على الثوابت وأبعاد الهوية الوطنية.
لكن رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال انتقد قبل أسبوع ما اعتبره النقاش والمزايدات السياسية المتعلقة بإصلاح نظام التعليم. وقال في تصريح صحافي إن "المدرسة ليست مجالاً للمزايدة والمناورة السياسية. وثوابت الأمة هي أساس المدرسة الجزائرية، وهذا أمر لا يتغير أبداً". ودعا إلى "الكف عن الضجيج السياسي حول المدرسة الجزائرية". وأطلق سلال تطمينات للأحزاب والقوى الإسلامية والمدنية بشأن تخوفاتها على موقع ورصيد الثوابت الوطنية في النظام التعليمي.
وقال "الجزائر حررت من خلال دستورها قضايا الدين والهوية واللغة من مستنقع المزايدات السياسية، وارتقت بها إلى الفضاء الأكاديمي والعلمي، وأينما يتناولها المختصون بموضوعية تخدم وحدة الشعب ومصالح الوطن". وأكد أنه "يجب أن تكون للمدرسة أصول ثابتة هي الإسلام والعروبة والأمازيغية وتوجه واضح نحو العصرنة". ولفت إلى أن "مشاكل التعليم هي في عصرنة الأداء التربوي والعزوف عن التكوين المهني، وظواهر الغش والعنف، ونقص البحث". وطالب سلال بإطلاق "نقاش بناء حول الأداء التربوي بهدف تحسينه وإيصال المعرفة، لأنه حان الوقت للمرور إلى الجيل الثاني للتعلم من دون المساس بثوابت الأمة، بدلاً من الرجوع إلى هذا النقاش البيزنطي حول لغة التدريس والدين الإسلامي والأمازيغية".
ولم يتح الغموض الكبير في مشروع الدولة والمجتمع وغياب تصورات واضحة للمستقبل في العقل السياسي المدير لشؤون الجزائر في العقود الأخيرة، حسمَ كثير من المشاكل السياسية والثقافية. وظلت السلطة تتهرب من حسمها لاعتبارات التوافق المجتمعي، بسبب افتقارها لتصور واضح ورؤية مستنيرة إزاء هذا الحسم من جهة، وافتقادها لعوامل القوة والشرعية السياسية والشعبية التي تتيح لها ذلك من جهة أخرى.