ينتظر عدد من المنظمات الحقوقية ومديريها، اليوم السبت، حكماً محتملاً بالتحفظ على أموالهم، على ذمة "قضية التمويل الأجنبي"، وذلك على أثر تقدّم جهات التحقيق بطلبات بالتحفظ على أموالهم. التحقيق في تمويل منظمات محلية وأجنبية بدأ في يوليو/تموز 2011، بعد 5 أشهر من سقوط الرئيس المخلوع حسني مبارك، وأدى بالفعل إلى إدانة وإغلاق مكاتب خمس منظمات دولية غير حكومية في مصر. يتولى التحقيق حالياً لجنة من ثلاثة قضاة اختارتهم محكمة استئناف القاهرة بناء على طلب وزارة العدل.
بالتالي أصبحت مقاضاة قيادات المنظمات غير الحكومية المصرية المستقلة، على خلفية اتهامات مرتبطة بنشاطاتهم في مجال حقوق الإنسان، تشكّل خطراً وشيكاً على استمرار عمل تلك المنظمات في مصر. وعلى مدى الأشهر الثلاثة الأخيرة، أصدر قضاة التحقيق في "قضية التمويل الأجنبي"، أربعة أوامر جديدة بالمنع من السفر بحق حقوقيين مصريين. وفي الأشهر الستة الماضية نالت تلك الإجراءات من 12 منظمة مصرية حقوقية مستقلة على الأقل، ما بين قرارات بالمنع من السفر، وأوامر بتجميد الأموال واستدعاء للعاملين بتلك المنظمات ومديريها، بالإضافة إلى قرارات بالغلق لبعضها.
بناءً على تلك القرارات، ارتفع إجمالي الحقوقيين الممنوعين من السفر على خلفية القضية إلى 12 حقوقياً وحقوقية، فضلاً عن استدعاء خمسة آخرين من العاملين بمنظمات حقوق الإنسان للتحقيق، ليصبح إجمالي المطلوبين للتحقيق بشأن نشاطهم الحقوقي 17 مدافعاً ومدافعة. ويجيز قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية لعام 2002، المعمول به حالياً في مصر، للحكومة حلّ هذه الجمعيات ومصادرة ممتلكاتها عندما ترى ذلك مناسباً، فضلاً عن رفض أفراد معينين في مجالس إدارتها ومنع تمويلها من مصادر أجنبية. وفي سبتمبر/أيلول 2014، أدخل الرئيس عبد الفتاح السيسي، تعديلات على قانون العقوبات، تُشدّد العقوبة على تلقّي الأموال من مصادر أجنبية، بهدف "الإضرار بالمصلحة القومية".
وإزاء الشجب الدولي لهذه التدابير، تراجعت الحكومة عن قرارها القاضي بالحلّ الفوري لسائر المنظمات التي تنفذ أنشطة متصلة بالمجتمع المدني من دون أن تكون مسجلة في أواخر العام 2014، ولكنها عادت من جديد في تنفيذ تلك التدابير، ولكن هذه المرة بشكل مبطن قانونياً وأقلّ وضوحاً. وقبل ساعات من صدور الحكم المحتمل، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وهي منظمة مجتمع مدني، ورقة قانونية شرحت فيها آخر تطورات التحقيقات في القضية.
ووفقاً لأوراق القضية، فالفعل محل التحقيق هو نشاط تلك المنظمات الحقوقية، أما عناصر الاتهام محل التحقيق فهي تحويل الأموال، والعمل من خلال كيان غير قانوني يستخدم تلك الأموال لغرض إجرامي. وعن الاتهامات الواردة في ملفات القضية، بحسب محامي الدفاع، فتأتي بناءً على المادة 78 من قانون العقوبات التي تنص على يعاقب بالسجن المؤبد، كل من حصل على أموال من الخارج بغرض ارتكاب عمل ضار بالمصالح القومية أو باستقرار السلام العام أو استقلال البلاد ووحدتها، أو القيام بأي من أعمال العدو ضد مصر أو الإضرار بالأمن والنظام العام.
أما المادة 98 (ج) (1) من قانون العقوبات المصري، فتنصّ على السجن لستة أشهر لكل من أنشأ أو أسس أو أدار جمعية أو منظمة أو مؤسسة من أي نوع لها طابع دولي أو فرع لمنظمة دولية من دون تصريح. وتنصّ المادة 98 (د) على السجن خمس سنوات لكل من "تسلم أو قبل مباشرة أو بالواسطة بأية طريقة أموالاً أو منافع من أي نوع كانت من شخص أو هيئة خارج الجمهورية أو داخلها، متى كان ذلك في سبيل ارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد 98 (أ) و98 (أ) مكرر و98 (ب) و98 (ج) و174 من هذا القانون". أما المادة 76 (2) (أ) من قانون الجمعيات رقم 84/2002 فتُعاقب من لم يسجل بحسب القانون بالسجن لفترة تصل إلى ستة أشهر.
ووفقا لأوراق القضية، فالدليل على ارتكاب المنظمات الحقوقية لتلك الجرائم المضرة بالأمن القومي، يكمن في النشاط الحقوقي لتلك المنظمات. يذكر أن منظمات المجتمع المدني التي شملتها التحقيقات في القضية منذ عام 2011، يصل عددها على سبيل الحصر إلى 41 منظمة تلقت المنح الأميركية، بالإضافة إلى أربع منظمات أخرى تلقت منحاً وتمويلاً من دول غير الولايات المتحدة، ثم توجيه اتهامات لها بتأسيس وإدارة فروع لمنظمات دولية بغير ترخيص، وتسلّم وقبول أموال ومنافع من هيئات خارج مصر لتأسيس فروع لمنظمات دولية، والاشتراك بطريقي الاتفاق والمساعدة على ارتكاب جريمة إدارة فروع لمنظمات ذات صفة دولية من دون ترخيص في مصر.
وفي حيثيات الحكم الصادر في 15 يونيو/حزيران الماضي، بتأييد طلب قضاة التحقيق بتجميد الأصول والأموال الخاصة بمركز أندلس لدراسات التسامح ومديره أحمد سميح، اعتمد القاضي على تقرير أعده ضابط الأمن الوطني العقيد محمود علي محمود، مسبباً قبوله للطلب، بأن المركز استقبل أموالا أجنبية في مقابل نشر معلومات خاطئة، تستهدف الإضرار بصورة مصر ونشر الفوضى وإضعاف مؤسسات الدولة وإحداث انقسامات في المجتمع المصري. وقد وصف الحكم الأفعال التي ارتكبتها المنظمة بأنها "ادعاءات كاذبة بشأن وجود تمييز ضد المسيحيين الأقباط والبهائيين، بهدف الإضرار بالأمن القومي وتشويه صورة البلاد في الخارج ونشر بيانات كاذبة بشأن وجود فتنة طائفية في مصر".
وقد طالب قضاة التحقيق في القضية باستخراج قرارات بالمنع من السفر لبعض مديري ومؤسسي المنظمات غير الحكومية، وقرارات أخرى بتجميد أموال بعض المنظمات، ومنع تصرف عدد من مؤسسيها وذويهم في أموالهم.
وصدرت قرارات منع من السفر لـ12 من مديري ومؤسسي والعاملين بالمنظمات، وهم: مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد، ومؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حسام بهجت، ومدير مكتب القاهرة لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان محمد زارع، والمدير التنفيذي للمركز العربي لاستقلال القضاء ومهنة المحاماة هدى عبد الوهاب، ومديرة مؤسسة نظرة للدراسات النسوية مزن حسن، ومؤسس المركز العربي لاستقلال القضاء ومهنة المحاماة ناصر أمين، والمدير التنفيذي لمركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية رضا الدنبوقي، وإسراء عبد الفتاح، وأحمد غنيم، وباسم سمير، من المعهد المصري الديمقراطي، فضلاً عن مدير المعهد حسام الدين علي، ومدير المفوضية المصرية للحقوق والحريات محمد لطفي.
أما عن طلبات التحفظ على الأموال والأصول (بشكل مؤقت لحين الحكم النهائي في القضية)، فتضم القائمة 13 حقوقياً معرّضين لتجميد أموالهم، إضافة إلى أسماء ثلاث منظمات، وهي مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومركز هشام مبارك للقانون، والمركز المصري للحق في التعليم، ينتظرون انتظار الحكم الخاص بهم اليوم. وكشفت الورقة القانونية التي قدمتها المبادرة، بأن أسماء 37 منظمة قد تكون عرضة للملاحقة على خلفية القضية، بالاستناد إلى تقرير تقصي الحقائق الحكومي الصادر في عام 2011.
ركّزت المحاكمة الأولى في عام 2012 على أربع منظمات أميركية ومنظمة ألمانية عاملة في مصر، وانتهت بأحكام بالسجن لفترات تراوحت بين سنة إلى خمس سنوات على 43 عاملاً. والقضية الآن في شقها الثاني تستهدف المنظمات غير الحكومية المصرية، ولكنها هذه المرة لن تنتهي بأحكام السجن لفترات طويلة فحسب، وإنما أيضاً بإغلاق المنظمات المصرية، على النحو نفسه المتبع في عام 2013، فضلاً عن أن أحكام السجن الصادرة في عامي 2012 و2013 كانت في حدّها الأقصى خمس سنوات، ولكن بعد تعديل المادة 78 من قانون العقوبات ارتفعت العقوبة إلى السجن المؤبد.
منذ عام 2011 وحتى الآن وعدت الحكومات المتتالية بتعديل القانون رقم 84 الخاص بالجمعيات الأهلية، وقدمت مسودات عدة في هذا الشأن. كما قدمت المجموعات الحقوقية المشورة ودعت البرلمان والحكومة لمناقشة هذه المسودات. وفي نهاية عام 2013 شاركت بعض المنظمات غير الحكومية في لجنة معينة من الحكومة للتشاور بشأن قانون الجمعيات، وعلى مدى العامين الماضيين دعت المنظمات الحقوقية الحكومة لفتح حوار مع الحركة الحقوقية والتوقف عن كافة أشكال التحرش بالمنظمات.
في السياق ذاته، اعتبر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، منظمة مجتمع مدني أنهت عملها في مصر وتدار حالياً من فرنسا، أن هذه القضية هي "مجرد حلقة جديدة في خطة التنكيل والانتقام من المدافعين عن حقوق ضحايا جرائم حقوق الإنسان في مصر، واستئصال الحركة الحقوقية المصرية، وهي الخطة التي بدأ تنفيذها عقب تولي السيسي مقاليد الحكم بنحو شهر واحد، بتوجيه إنذار بالغلق للمنظمات المسجلة بمقتضى قوانين مصرية أخرى غير قانون الجمعيات القمعي، أعقبه محاولة تمرير قانون جديد لتأميم المجتمع المدني أشد قمعاً من القانون المعمول به. وذلك بعد دفن مشروع قانون كانت قد توافقت عليه منظمات المجتمع المدني مع الحكومة في يناير/كانون الثاني 2014 قبل تولي السيسي الحكم بأشهر قليلة".
ونوّه المركز إلى أن "الخطة تتابعت بإحياء ما يسمى بقضية التمويل الأجنبي والتوظيف السياسي والأمني للجهاز القضائي، للتخلص من منظمات ذات باع طويل لنحو ربع قرن في فضح جرائم الأجهزة الأمنية ضد المواطنين المصريين وفي عرقلة قوانينها المعيبة".