يواصل النظام السوري، بدعم إيراني، تطبيق مخططه الرامي إلى تهجير المناطق المناهضة له تباعاً، من داريا إلى التل ووادي بردى، ليصل اليوم إلى منطقة جنوب دمشق. ولتحقيق هذه الغاية، يمعن النظام في خرق اتفاق أنقرة الذي توصل إلى وقف إطلاق النار في سورية، والذي نص، بحسب الوثائق المسربة، على تثبيت مناطق السيطرة بحسب وضعها الحالي لجميع الأطراف باستثناء التنظيمات "الإرهابية" وعلى رأسها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). لكن من الواضح أن محور إيران - النظام يستفيد من القوى الوازنة على الأرض اليوم، والمتمثلة بالمليشيات الإيرانية والعراقية و"حزب الله" اللبناني، إضافة إلى مليشيات "الدفاع الوطني" المرتبطة بإيران من حيث التمويل والتدريب، من أجل المضي بمخطط التهجير، في ظل صمت روسيا.
وترى مصادر في دمشق، تحدثت إلى "العربي الجديد"، أن منطقة جنوب دمشق تكتسب أهمية استراتيجية، إذ تعتبر الجسر الرابط بين الغوطة الشرقية والغربية، وتطل على طريق درعا وطريق دمشق السويداء. ووفقاً للمصادر نفسها، فإن السيطرة عليها تنقل خط دفاع النظام عن العاصمة إلى حدود منطقة اللجاة التي تبعد عن دمشق نحو 50 كيلومتراً، والواقعة بين محافظات السويداء ودرعا وريف دمشق. ولذلك فإن "إعادة سيطرة النظام على جنوب دمشق تعتبر إنجازاً أمنياً مهماً له"، بحسب المصادر.
وتقسم منطقة جنوب دمشق، الخارجة عن سيطرة النظام منذ عام 2012، إلى ثلاث مناطق، هي: ببيلا ويلدا وبيت سحم شرقاً، وتخضع لسيطرة فصائل معارضة مسلحة وإسلامية؛ والحجر الأسود ومخيم اليرموك وفلسطين والتضامن في الوسط، وتخضع لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) و"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً)؛ والقدم والعسالي وهي تشكل القسم الغربي من المنطقة، وتخضع لسيطرة فصائل مسلحة معارضة.
ويحاول النظام اليوم، فرض تسوية على الجزء الشرقي بما يعيده إلى سلطة النظام، على أن يهجر من لا يقبل بالتسوية، ويفرض على منْ يبقى من مقاتلين، محاربة تنظيمي "داعش" و"فتح الشام" في القطاع الأوسط بإشراف النظام.
ويعيش نحو 100 ألف شخص داخل ببيلا ويلدا وبيت سحم، تحت وطأة حصار جزئي، إذ يسمح النظام بإدخال المواد الغذائية وبعض البضائع التي لا تستخدم في العمل العسكري، عبر معبر وحيد في بلدة ببيلا. ويتم ذلك بواسطة تجار مرتبطين بالنظام، مقابل تقاضي نسبة 10 في المائة من ثمنها كإتاوى. كما تقتصر حركة المدنيين على النساء والأطفال، جراء خوف الشباب من الخروج إلى مناطق النظام كي لا يتعرضوا للاعتقال أو التجنيد الإجباري في صفوف القوات النظامية، في حين يعتبر التوجه باتجاه المخيم والحجر الأسود مخاطرة لا تقل عن الوقوع بيد النظام.
اقــرأ أيضاً
وكان أهالي جنوب دمشق انخرطوا بالحراك المناهض للنظام المطالب بالحرية والكرامة منذ عام 2011، والذي تطور إلى صدام مسلح في الشهر السابع من عام 2012، عقب حملات اعتقال كبيرة بين الأهالي وسقوط عدد من القتلى. واستخدم النظام شتى أنواع الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي مرتكباً مجازر عدة، كان آخرها بتاريخ 5 يناير/ كانون الثاني 2014. ونتيجة الحصار المطبق، وبعد وعود بالسماح للأهالي بالخروج من المنطقة وبتسهيل من تنظيم "داعش"، خرج آلاف من الناس عبر نقطة شارع علي الوحش بين بلدة يلدا وحجيرة في ريف دمشق الجنوبي. وبعد خروجهم واستقبالهم من قبل قوات النظام والمليشيات المساندة له، تم ضربهم وإذلالهم، ومن ثم تم اعتقال جميع الرجال وبعض النساء والأطفال ولم يفرج عنهم حتى اللحظة. وتقدر أعدادهم بـ1500 مدني على الأقل، في حين أفاد ناجون بأن مئات منهم تعرضوا للقتل. وفي الشهر التالي لهذه الحادثة، وقع النظام مع هذه المناطق الثلاث بجنوب دمشق، هدنةً، عقب أشهر من الحصار المطبق والقصف المتواصل. ونص الاتفاق على وقف إطلاق النار مقابل السماح بدخول المواد الغذائية وحركة المدنيين. ومنذ ذلك الوقت، كان الحصار يعود إليها بين الحين والآخر لتحصيل المزيد من المكاسب لصالح النظام، الذي قام بتهجير العديد من البلدات القريبة منها، كالحسينية والذيابية وحجيرة، إليها، ضمن عمليات تضييق الخناق عليها وحرمانها من مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، التي كانت تشكل مصدراً غذائياً أساسياً للمحاصرين.
وتعتبر منطقة السيدة زينب، الملاصقة لهذه البلدات، إضافة إلى المناطق التي تم تهجير أهلها، مركزاً رئيسياً للمليشيات الإيرانية، نظراً لبعدها الديني المتمثل بوجود مقام السيدة زينب. وأهم تلك المليشيات الموجودة هناك: "لواء أبو العباس" العراقي وحزب الله اللبناني.
من جهة أخرى، تشهد الجبهة بين مناطق عدة في جنوب دمشق ومناطق الحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن، التي يسيطر عليها كل من "داعش" و"النصرة"، اشتباكات متقطعة ومحاولات تسلل من الطرفين. ويقول الناشط من مخيم اليرموك، أبو يحيى الشامي، لـ"العربي الجديد"، إن "تنظيمي داعش والنصرة كانا قبل عامي 2013 و2014، مجموعتين صغيرتين، لا وزن لهما في العمل العسكري، حتى أنهما لم يكونا يتدخلان في حياة الأهالي". ويلفت إلى أنه مع اشتداد الحصار، وتراجع الدعم للفصائل وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع أسعار المواد الغذائية وانتشار البطالة، بدأ مقاتلون وشبان باللجوء إلى تنظيمي "داعش" و"النصرة"، اللذين كانا يقدمان لمقاتليهما رواتب شهرية أضعافاً مضاعفة عما كانت فصائل المعارضة السورية تعطيه للمقاتلين في صفوفها. ويشير إلى أن "النصرة" شهدت حتى انشقاقات فردية وجماعية لصالح "داعش". ويلفت إلى أن "داعش اليوم يسيطر على الحجر الأسود والتضامن ومساحة واسعة من مخيمي اليرموك وفلسطين، وتعتبر جبهاته مع النظام مستقرة بشكل تام، في حين يوجه سلاحه باتجاه الفصائل المسلحة المعارضة". ويبيّن أن "هناك الكثير من علامات الاستفهام على علاقته مع النظام، إذ تفيد المعلومات بأن جرحاه يتلقون العلاج في مناطق النظام، كما يتم إدخال كل احتياجاته عبرها". كما يشير إلى أنه راج الحديث أخيراً عن أن "داعش" و"فتح الشام" توصلا إلى اتفاق يقضي بالسماح لهما بالتوجه إلى الرقة، قبل أن يعود النظام ويوقف تنفيذه، من دون معرفة الأسباب، بحسب قول الشامي.
اقــرأ أيضاً
وفي وقت يتوقع فيه أن يقدم النظام السوري تسوية لمنطقة القدم والعسالي، قدم مبادرة "مصالحة" خاصة ببيلا ويلدا وبيت سحم، مكونة من 46 بنداً، تضع الفصائل المسلحة والأهالي بين خيارات صعبة. فإما البقاء في المنطقة تحت سلطة النظام، وقتال "داعش" و"النصرة"، وإما التهجير. وعدم الموافقة على التسوية ستدفع النظام إلى فرض سيطرته بالقوة، ما يعني إعادة فرض الحصار والقصف الكثيف وارتكاب مجازر بحق المدنيين.
وأمهلت قوات النظام بلدات جنوب دمشق حتى يوم الخميس المقبل، للموافقة على بنود التسوية التي قدمها النظام لأهالي المنطقة التي تعيش حالة ترقب بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في مناطقهم، على ضوء نتائج الاجتماع الذي من المفترض أن يكون قد عقد مساء أمس، الجمعة، بين وفد النظام السوري و"اللجنة السياسية" التي تمثل فصائل المعارضة والمجتمع المحلي في المنطقة. ومن المتوقع أن تقوم اللجنة بتسليم النظام رد الفصائل والأهالي على "العرض/ الإنذار" الذي وجهه النظام. وعلى الرغم من أن اللجنة السياسية لم تفصح عن طبيعة ردها على عرض النظام، إلا أن معطيات عدة تشير إلى أن الفصائل تتجه إلى رفض العرض بصيغته الحالية باعتباره أقرب إلى الاستسلام الكامل.
مضمون مبادرة النظام
ويتضمن عرض نظام الأسد تسليم الفصائل معظم أسلحتها، على أن تبقي فقط على "ما تحتاجه" لمحاربة "داعش" و"فتح الشام"، والتي قدرتها مبادرة النظام بين 30 و40 في المائة من كمية الأسلحة الموجودة لديها حالياً، أي أن عليها أن تسلم للنظام بين 60 إلى 70 بالمائة من أسلحتها. وطالبت "مبادرة" النظام بتحديد الفصائل المرابطة على جبهة "داعش" وتنظيم "النصرة" والجبهات التي يشغلها، وتحديد السلاح الموجود مع كل فصيل مسلح على خطوط التماس مع التنظيمين، على جبهة مخيم اليرموك والحجر الأسود والتضامن. كما نصت على دمج الفصائل المرابطة هناك تحت مسمى واحد وقيادة واحدة بالتنسيق مع الجهات المعنية في النظام من أجل محاربة "داعش" و"فتح الشام"، وتقديم كشف بأسماء وأعداد المقاتلين لدى الفصائل من أجل تسوية وضعهم الأمني وعدم مساءلتهم مستقبلاً. وطالبت بتسليم لوائح اسمية بالضباط والعسكريين الفارين لدى كل فصيل بقصد تسوية أوضاعهم، وتنظيم لوائح بالمتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية، وتأجيل التحاق المتخلفين عن الخدمة ممن يرغب لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد. وطالب النظام بقوائم بأسماء العسكريين الموجودين في البلدات الثلاث من غير المجموعات المسلحة، والعمل على تأمين خدمتهم ضمن الوحدات العسكرية القريبة من البلدات الثلاث أو على جبهات المواجهة مع "داعش" و"فتح الشام"، وتنظيم قوائم بأسماء المدنيين غير الموجودين ضمن الفصائل المطلوبين والموظفين المنقطعين عن العمل لتسوية أوضاعهم. وتضمنت "المبادرة" أيضاً تسليم جميع أنواع السلاح للنظام عند زوال الخطر عن البلدات، وفي حال امتناع أي فصيل عن تسليم السلاح يتم التعامل معه بالقوة من قبل الأهالي والنظام، فضلاً عن سحب كافة الكمائن المسلحة التابعة لفصائل المعارضة من كافة المناطق المحيطة بالبلدات واستبدالها بكمائن ونقاط لقوات النظام والدفاع الوطني، وخاصة باتجاه المطار والسيدة زينب. كذلك يريد النظام تشكيل قوة تحت اسم "لواء مغاوير الجنوب" وتسليحها من جانب مليشيات "الدفاع الوطني"، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة مع قوات النظام. كما نصت "مبادرته" على عقد لقاء تصالحي بين أهالي البلدات المذكورة وأهالي حي السيدة زينب وإقامة صلاة مشتركة ومأدبة غداء برعاية محافظ دمشق وأمين فرع "حزب البعث".
وعلى الرغم من تمديد المهلة التي وجهها النظام للمنطقة إلى الخميس المقبل، إلا أن قوات النظام استبقت الاجتماع المقرر مساء الجمعة مع وفد المعارضة لتسلم الرد، بتحركات ترهيبية تشير إلى نيتها استخدام القوة للتعامل مع المنطقة في حال رفض مبادرتها. وحلقت طائرات للنظام على علو منخفض في سماء المنطقة من دون أن تقوم بعمليات قصف. وأغلقت قواتها حاجز العسالي بجنوب دمشق المحاصر، صباح الخميس، لفترة وجيزة من الزمن ثم عادت وفتحته، وأخضعت النساء الداخلات والخارجات من وإلى العاصمة دمشق إلى تفتيش دقيق.
ويفيد الناشط أحمد مصطفى، لـ"العربي الجديد"، بأن هناك تحركات لقوات النظام في مطار عقربا الواقع بالقرب من المنطقة، حيث دخل رتل عسكري مكون من عربتي "بي أم بي" وست ناقلات جنود، وسيارة محملة بمدفع عيار 23 مليمتراً إلى المطار المروحي. ووفقاً لمصطفى، فإن الرأي الغالب لدى الفصائل والمدنيين في جنوب دمشق، هو رفض مبادرة النظام المكونة من 46 بنداً، لأنها لا تقدم بديلاً "مشرفاً" للوضع الراهن، وهي أقرب لصيغة الاستسلام الكامل، وتسليم المنطقة لقوات النظام من دون ضمانات حقيقية بشأن مصيرها. ويشير إلى أن النظام يحاول استغلال الوقت عبر الضغط والتهديد ويواصل اختراق اتفاق وقف إطلاق النار دون أي عقاب كما يحصل في وادي بردى.
خيارات صعبة
وحول العواقب المحتملة لرفض الفصائل مبادرة النظام، يقول مصطفى "إن هناك نحو عشرة آلاف مقاتل في جنوب دمشق ينتمون لفصائل عدة، وهي جيش الإسلام وجيش الأبابيل ولواء شام الرسول وأحرار الشام ولواء شهداء الإسلام وأكناف بيت المقدس وكتائب الفرقان والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام ولواء مجاهدي الشام، وهم قادرون على صد أي هجوم للنظام، لكنهم يراعون وضع المدنيين الخارجين من حصار دام سنوات". ويقدّر وجود نحو مائة ألف مدني في المناطق الثلاث المعنية وهي ببيلا ويلدا وبيت سحم، وفيها كثير من المتخلفين عن الخدمة العسكرية والمنشقين عن جيش النظام وهؤلاء سيكون وضعهم سيئاً للغاية إذا تم قبول مبادرة النظام بصيغتها الحالية. لكن مصطفى يستدرك بالقول إن "النظام كوّن أرضية صلبة داخل بعض مناطق جنوب دمشق من خلال بعض المشايخ الذين تسلموا أمور المصالحة وأصبحوا ممثلين عن مناطقهم"، على حد وصفه. وحول الوضع الإنساني، قال إن المنطقة مقيدة بالمواد الغذائية، ودخول المواد الأساسية يخضع لرسوم، مشيراً إلى أن أغلب المدنيين يعيشون دون خط الفقر وسط انتشار البطالة وآثار الحصار الذي دام سنوات.
وكانت مصادر في كتائب "أكناف بيت المقدس"، وهي مجموعة فلسطينية في غالبها، قاتلت تنظيمي "داعش" و"النصرة"، إضافة إلى محاربتها للنظام، ذكرت أن ما قدمه النظام للفصائل العسكرية مرفوض في صيغته الحالية من جانب المدنيين والعسكريين على السواء.
يذكر أن "اللجنة السياسية" في جنوب دمشق، كانت قد تشكلت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد تفويض من مختلف القوى العسكرية والمدنية، بهدف "وضع رؤية سياسية توافقية، تنطلق منها لجنة التفاوض الموسعة المخولة بالتفاوض مع النظام حول مصير جنوب دمشق". ويقول مصدر مقرب من هذه اللجنة لـ"العربي الجديد"، إنها بعدما حصلت على مهلة جديدة من نظام بشار الأسد تمتد حتى يوم الخميس المقبل للرد على المبادرة، قوبلت برفض النظام للتعديلات التي أجرتها اللجنة السياسية على المبادرة بشكل كامل، إذ إن النظام يطالب اللجنة بتجهيز قوائم المنشقين والمتخلفين والموافقين على المبادرة. كما طالب بقوائم خاصة بالرافضين للمبادرة وأعداد السلاح الموجود في المنطقة.
وترى مصادر في دمشق، تحدثت إلى "العربي الجديد"، أن منطقة جنوب دمشق تكتسب أهمية استراتيجية، إذ تعتبر الجسر الرابط بين الغوطة الشرقية والغربية، وتطل على طريق درعا وطريق دمشق السويداء. ووفقاً للمصادر نفسها، فإن السيطرة عليها تنقل خط دفاع النظام عن العاصمة إلى حدود منطقة اللجاة التي تبعد عن دمشق نحو 50 كيلومتراً، والواقعة بين محافظات السويداء ودرعا وريف دمشق. ولذلك فإن "إعادة سيطرة النظام على جنوب دمشق تعتبر إنجازاً أمنياً مهماً له"، بحسب المصادر.
ويحاول النظام اليوم، فرض تسوية على الجزء الشرقي بما يعيده إلى سلطة النظام، على أن يهجر من لا يقبل بالتسوية، ويفرض على منْ يبقى من مقاتلين، محاربة تنظيمي "داعش" و"فتح الشام" في القطاع الأوسط بإشراف النظام.
ويعيش نحو 100 ألف شخص داخل ببيلا ويلدا وبيت سحم، تحت وطأة حصار جزئي، إذ يسمح النظام بإدخال المواد الغذائية وبعض البضائع التي لا تستخدم في العمل العسكري، عبر معبر وحيد في بلدة ببيلا. ويتم ذلك بواسطة تجار مرتبطين بالنظام، مقابل تقاضي نسبة 10 في المائة من ثمنها كإتاوى. كما تقتصر حركة المدنيين على النساء والأطفال، جراء خوف الشباب من الخروج إلى مناطق النظام كي لا يتعرضوا للاعتقال أو التجنيد الإجباري في صفوف القوات النظامية، في حين يعتبر التوجه باتجاه المخيم والحجر الأسود مخاطرة لا تقل عن الوقوع بيد النظام.
وكان أهالي جنوب دمشق انخرطوا بالحراك المناهض للنظام المطالب بالحرية والكرامة منذ عام 2011، والذي تطور إلى صدام مسلح في الشهر السابع من عام 2012، عقب حملات اعتقال كبيرة بين الأهالي وسقوط عدد من القتلى. واستخدم النظام شتى أنواع الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي مرتكباً مجازر عدة، كان آخرها بتاريخ 5 يناير/ كانون الثاني 2014. ونتيجة الحصار المطبق، وبعد وعود بالسماح للأهالي بالخروج من المنطقة وبتسهيل من تنظيم "داعش"، خرج آلاف من الناس عبر نقطة شارع علي الوحش بين بلدة يلدا وحجيرة في ريف دمشق الجنوبي. وبعد خروجهم واستقبالهم من قبل قوات النظام والمليشيات المساندة له، تم ضربهم وإذلالهم، ومن ثم تم اعتقال جميع الرجال وبعض النساء والأطفال ولم يفرج عنهم حتى اللحظة. وتقدر أعدادهم بـ1500 مدني على الأقل، في حين أفاد ناجون بأن مئات منهم تعرضوا للقتل. وفي الشهر التالي لهذه الحادثة، وقع النظام مع هذه المناطق الثلاث بجنوب دمشق، هدنةً، عقب أشهر من الحصار المطبق والقصف المتواصل. ونص الاتفاق على وقف إطلاق النار مقابل السماح بدخول المواد الغذائية وحركة المدنيين. ومنذ ذلك الوقت، كان الحصار يعود إليها بين الحين والآخر لتحصيل المزيد من المكاسب لصالح النظام، الذي قام بتهجير العديد من البلدات القريبة منها، كالحسينية والذيابية وحجيرة، إليها، ضمن عمليات تضييق الخناق عليها وحرمانها من مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، التي كانت تشكل مصدراً غذائياً أساسياً للمحاصرين.
وتعتبر منطقة السيدة زينب، الملاصقة لهذه البلدات، إضافة إلى المناطق التي تم تهجير أهلها، مركزاً رئيسياً للمليشيات الإيرانية، نظراً لبعدها الديني المتمثل بوجود مقام السيدة زينب. وأهم تلك المليشيات الموجودة هناك: "لواء أبو العباس" العراقي وحزب الله اللبناني.
من جهة أخرى، تشهد الجبهة بين مناطق عدة في جنوب دمشق ومناطق الحجر الأسود ومخيم اليرموك والتضامن، التي يسيطر عليها كل من "داعش" و"النصرة"، اشتباكات متقطعة ومحاولات تسلل من الطرفين. ويقول الناشط من مخيم اليرموك، أبو يحيى الشامي، لـ"العربي الجديد"، إن "تنظيمي داعش والنصرة كانا قبل عامي 2013 و2014، مجموعتين صغيرتين، لا وزن لهما في العمل العسكري، حتى أنهما لم يكونا يتدخلان في حياة الأهالي". ويلفت إلى أنه مع اشتداد الحصار، وتراجع الدعم للفصائل وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع أسعار المواد الغذائية وانتشار البطالة، بدأ مقاتلون وشبان باللجوء إلى تنظيمي "داعش" و"النصرة"، اللذين كانا يقدمان لمقاتليهما رواتب شهرية أضعافاً مضاعفة عما كانت فصائل المعارضة السورية تعطيه للمقاتلين في صفوفها. ويشير إلى أن "النصرة" شهدت حتى انشقاقات فردية وجماعية لصالح "داعش". ويلفت إلى أن "داعش اليوم يسيطر على الحجر الأسود والتضامن ومساحة واسعة من مخيمي اليرموك وفلسطين، وتعتبر جبهاته مع النظام مستقرة بشكل تام، في حين يوجه سلاحه باتجاه الفصائل المسلحة المعارضة". ويبيّن أن "هناك الكثير من علامات الاستفهام على علاقته مع النظام، إذ تفيد المعلومات بأن جرحاه يتلقون العلاج في مناطق النظام، كما يتم إدخال كل احتياجاته عبرها". كما يشير إلى أنه راج الحديث أخيراً عن أن "داعش" و"فتح الشام" توصلا إلى اتفاق يقضي بالسماح لهما بالتوجه إلى الرقة، قبل أن يعود النظام ويوقف تنفيذه، من دون معرفة الأسباب، بحسب قول الشامي.
وفي وقت يتوقع فيه أن يقدم النظام السوري تسوية لمنطقة القدم والعسالي، قدم مبادرة "مصالحة" خاصة ببيلا ويلدا وبيت سحم، مكونة من 46 بنداً، تضع الفصائل المسلحة والأهالي بين خيارات صعبة. فإما البقاء في المنطقة تحت سلطة النظام، وقتال "داعش" و"النصرة"، وإما التهجير. وعدم الموافقة على التسوية ستدفع النظام إلى فرض سيطرته بالقوة، ما يعني إعادة فرض الحصار والقصف الكثيف وارتكاب مجازر بحق المدنيين.
وأمهلت قوات النظام بلدات جنوب دمشق حتى يوم الخميس المقبل، للموافقة على بنود التسوية التي قدمها النظام لأهالي المنطقة التي تعيش حالة ترقب بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في مناطقهم، على ضوء نتائج الاجتماع الذي من المفترض أن يكون قد عقد مساء أمس، الجمعة، بين وفد النظام السوري و"اللجنة السياسية" التي تمثل فصائل المعارضة والمجتمع المحلي في المنطقة. ومن المتوقع أن تقوم اللجنة بتسليم النظام رد الفصائل والأهالي على "العرض/ الإنذار" الذي وجهه النظام. وعلى الرغم من أن اللجنة السياسية لم تفصح عن طبيعة ردها على عرض النظام، إلا أن معطيات عدة تشير إلى أن الفصائل تتجه إلى رفض العرض بصيغته الحالية باعتباره أقرب إلى الاستسلام الكامل.
مضمون مبادرة النظام
ويتضمن عرض نظام الأسد تسليم الفصائل معظم أسلحتها، على أن تبقي فقط على "ما تحتاجه" لمحاربة "داعش" و"فتح الشام"، والتي قدرتها مبادرة النظام بين 30 و40 في المائة من كمية الأسلحة الموجودة لديها حالياً، أي أن عليها أن تسلم للنظام بين 60 إلى 70 بالمائة من أسلحتها. وطالبت "مبادرة" النظام بتحديد الفصائل المرابطة على جبهة "داعش" وتنظيم "النصرة" والجبهات التي يشغلها، وتحديد السلاح الموجود مع كل فصيل مسلح على خطوط التماس مع التنظيمين، على جبهة مخيم اليرموك والحجر الأسود والتضامن. كما نصت على دمج الفصائل المرابطة هناك تحت مسمى واحد وقيادة واحدة بالتنسيق مع الجهات المعنية في النظام من أجل محاربة "داعش" و"فتح الشام"، وتقديم كشف بأسماء وأعداد المقاتلين لدى الفصائل من أجل تسوية وضعهم الأمني وعدم مساءلتهم مستقبلاً. وطالبت بتسليم لوائح اسمية بالضباط والعسكريين الفارين لدى كل فصيل بقصد تسوية أوضاعهم، وتنظيم لوائح بالمتخلفين عن الخدمة الإلزامية والاحتياطية، وتأجيل التحاق المتخلفين عن الخدمة ممن يرغب لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد. وطالب النظام بقوائم بأسماء العسكريين الموجودين في البلدات الثلاث من غير المجموعات المسلحة، والعمل على تأمين خدمتهم ضمن الوحدات العسكرية القريبة من البلدات الثلاث أو على جبهات المواجهة مع "داعش" و"فتح الشام"، وتنظيم قوائم بأسماء المدنيين غير الموجودين ضمن الفصائل المطلوبين والموظفين المنقطعين عن العمل لتسوية أوضاعهم. وتضمنت "المبادرة" أيضاً تسليم جميع أنواع السلاح للنظام عند زوال الخطر عن البلدات، وفي حال امتناع أي فصيل عن تسليم السلاح يتم التعامل معه بالقوة من قبل الأهالي والنظام، فضلاً عن سحب كافة الكمائن المسلحة التابعة لفصائل المعارضة من كافة المناطق المحيطة بالبلدات واستبدالها بكمائن ونقاط لقوات النظام والدفاع الوطني، وخاصة باتجاه المطار والسيدة زينب. كذلك يريد النظام تشكيل قوة تحت اسم "لواء مغاوير الجنوب" وتسليحها من جانب مليشيات "الدفاع الوطني"، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة مع قوات النظام. كما نصت "مبادرته" على عقد لقاء تصالحي بين أهالي البلدات المذكورة وأهالي حي السيدة زينب وإقامة صلاة مشتركة ومأدبة غداء برعاية محافظ دمشق وأمين فرع "حزب البعث".
وعلى الرغم من تمديد المهلة التي وجهها النظام للمنطقة إلى الخميس المقبل، إلا أن قوات النظام استبقت الاجتماع المقرر مساء الجمعة مع وفد المعارضة لتسلم الرد، بتحركات ترهيبية تشير إلى نيتها استخدام القوة للتعامل مع المنطقة في حال رفض مبادرتها. وحلقت طائرات للنظام على علو منخفض في سماء المنطقة من دون أن تقوم بعمليات قصف. وأغلقت قواتها حاجز العسالي بجنوب دمشق المحاصر، صباح الخميس، لفترة وجيزة من الزمن ثم عادت وفتحته، وأخضعت النساء الداخلات والخارجات من وإلى العاصمة دمشق إلى تفتيش دقيق.
خيارات صعبة
وحول العواقب المحتملة لرفض الفصائل مبادرة النظام، يقول مصطفى "إن هناك نحو عشرة آلاف مقاتل في جنوب دمشق ينتمون لفصائل عدة، وهي جيش الإسلام وجيش الأبابيل ولواء شام الرسول وأحرار الشام ولواء شهداء الإسلام وأكناف بيت المقدس وكتائب الفرقان والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام ولواء مجاهدي الشام، وهم قادرون على صد أي هجوم للنظام، لكنهم يراعون وضع المدنيين الخارجين من حصار دام سنوات". ويقدّر وجود نحو مائة ألف مدني في المناطق الثلاث المعنية وهي ببيلا ويلدا وبيت سحم، وفيها كثير من المتخلفين عن الخدمة العسكرية والمنشقين عن جيش النظام وهؤلاء سيكون وضعهم سيئاً للغاية إذا تم قبول مبادرة النظام بصيغتها الحالية. لكن مصطفى يستدرك بالقول إن "النظام كوّن أرضية صلبة داخل بعض مناطق جنوب دمشق من خلال بعض المشايخ الذين تسلموا أمور المصالحة وأصبحوا ممثلين عن مناطقهم"، على حد وصفه. وحول الوضع الإنساني، قال إن المنطقة مقيدة بالمواد الغذائية، ودخول المواد الأساسية يخضع لرسوم، مشيراً إلى أن أغلب المدنيين يعيشون دون خط الفقر وسط انتشار البطالة وآثار الحصار الذي دام سنوات.
وكانت مصادر في كتائب "أكناف بيت المقدس"، وهي مجموعة فلسطينية في غالبها، قاتلت تنظيمي "داعش" و"النصرة"، إضافة إلى محاربتها للنظام، ذكرت أن ما قدمه النظام للفصائل العسكرية مرفوض في صيغته الحالية من جانب المدنيين والعسكريين على السواء.
يذكر أن "اللجنة السياسية" في جنوب دمشق، كانت قد تشكلت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد تفويض من مختلف القوى العسكرية والمدنية، بهدف "وضع رؤية سياسية توافقية، تنطلق منها لجنة التفاوض الموسعة المخولة بالتفاوض مع النظام حول مصير جنوب دمشق". ويقول مصدر مقرب من هذه اللجنة لـ"العربي الجديد"، إنها بعدما حصلت على مهلة جديدة من نظام بشار الأسد تمتد حتى يوم الخميس المقبل للرد على المبادرة، قوبلت برفض النظام للتعديلات التي أجرتها اللجنة السياسية على المبادرة بشكل كامل، إذ إن النظام يطالب اللجنة بتجهيز قوائم المنشقين والمتخلفين والموافقين على المبادرة. كما طالب بقوائم خاصة بالرافضين للمبادرة وأعداد السلاح الموجود في المنطقة.