بدا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمس الاثنين، في زيارته السرية إلى سورية، والعلنية إلى مصر، فتركيا، وكأنه يقول للعالم إن روسيا اليوم هي القوة الأكبر والأهم في المنطقة. في الشكل والمضمون، بدا بوتين في سورية كرئيس قوة محتلة ومنتصرة. بدءاً من استدعاء رئيس النظام، بشار الأسد، لاستقباله في قاعدة حميميم الروسية وليس في مطار دمشق الدولي، مروراً بمصافحة بوتين لقائد القاعدة الروسية في حميميم قبل مصافحة الأسد، وقيام ضابط روسي بشد الأسد من ذراعه مانعاً إياه من اللحاق ببوتين مثلما أظهرت التسجيلات المصورة، وصولاً إلى نوعية المواقف والتصريحات التي أطلقها بوتين من اللاذقية، ليعلن من هناك أن النصر تحقق، وبالتالي أمكن سحب الجزء الأكبر من قواته العسكرية، ما خلا الموجودة في قاعدتي طرطوس البحرية واللاذقية الجوية الروسيتين لعقود طويلة بموجب الاتفاقية الروسية ــ السورية الموقعة بشأنهما. كل شيء أوحى بأن بوتين يقول إن الأمر له في هذه البقعة الجغرافية من العالم، في ظل الانسحاب الأميركي فعلاً، والحالة العربية المنهارة.
وزيارة بوتين أمس إلى سورية، الأولى لزعيم دولة إلى سورية منذ نحو سبعِ سنوات، والأولى في التاريخ لرئيس روسي و/أو سوفييتي، تحمل في سياقاتها دلالات ورسائل متعددة الاتجاهات، إذ إن هذه الزيارة الخاطفة والسرية، التي لم يُعلن عنها إلى حين وصول بوتين للقاهرة ظهر أمس، تأتي مع تقهقر وذوبان تنظيم "داعش" بمعظم معاقله الأساسية في سورية والعراق، وبعد أن أتمت روسيا تقريباً خطة إضعاف فتحجيم قوى الثورة والمعارضة عسكرياً، وترجيح كفة حليفها في دمشق، على المستوى العسكري والسياسي، بالتزامن مع استئناف الجولة الثانية لـ"جنيف 8"، وقبل "سوتشي 1"، و"أستانة 8". لكن أحد أهداف الزيارة، في الوقت ذاته، كما يبدو، هو تكريس انطباعٍ بمختلف الاتجاهات، أن روسيا الباقية في قاعدتي حميميم وطرطوس "بشكل دائم"، كما قال بوتين، تُحكم قبضتها على مفاصل القرار في سورية، وبإدارة الحل لمستقبل البلاد. ولم تختلف الزيارة السريعة والسرية والمفاجئة، من حيث الشكل، عن الزيارتين اليتيمتين المُعلنتين لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، إلى الخارج، روسيا تحديداً، منذ بدء الثورة الشعبية ضده في مارس/آذار 2011. إذ كان الأسد ظهر فجأة في موسكو في أكتوبر/تشرين الأول 2015، بعد أقل من شهر على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر بسورية، وأعلن عن الزيارة بعد انتهائها وعودته إلى سورية، وهو ما ينسحب على الزيارة الثانية التي جمعت بوتين بالأسد في مدينة سوتشي في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
هذه الزيارة، التي التقى فيها بوتين بالأسد، وبثت وسائل إعلام روسية بعد الإعلان عنها بساعتين، مشاهد مصورة مقتضبة لها، ظهر فيها الأسد مع بوتين في ما يشبه العرض العسكري السريع. واختار الرئيس الروسي زيارة قاعدة بلاده العسكرية في حميميم في اللاذقية، والتي هي بالأساس مطار مدني، قبل وصول القوات الروسية إليه في سبتمبر/أيلول 2015، عوضاً عن زيارة العاصمة الرسمية دمشق، مقر إقامة الأسد، الذي سافر إلى "حميميم"، للقاء بوتين في قاعدته العسكرية. وقبل أن تقلع طائرة بوتين من اللاذقية، التي كانت وصلتها صباحاً، لتحط بعدها في القاهرة ظهراً، قال الرئيس الروسي، بحضور وزير دفاعه، سيرغي شويغو، وقائد قواته بسورية، سيرغي سوروفكين، "من هنا من قاعدة حميميم العسكرية، آمر وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة ببدء سحب مجموعة القوات الروسية إلى نقاط تمركزها الدائم"، مضيفاً أنه و"خلال أكثر من عامين قامت القوات المسلحة الروسية، مع الجيش السوري بدحر أقوى الجماعات الإرهابية الدولية. ونظراً لذلك اتخذت قراراً بعودة جزء كبير من القوة العسكرية الروسية الموجودة في الجمهورية العربية السورية إلى روسيا".
لكن بوتين أعلن، في الوقت ذاته، أن "قراري اليوم يقضي بعودة الجزء الأكبر من القوات الروسية إلى الوطن روسيا بعد تحقيق الإنجازات المبهرة ضد الإرهاب. وسيبقى مركزين روسيين في طرطوس وحميميم لمواصلة العمل في سورية بشكل دائم"، مشيراً بذلك إلى قاعدتي بلاده العسكريتين في سورية، الأولى قاعدة بحرية، وهي موجودة على سواحل مدينة طرطوس منذ ما قبل بدء نقل طائرات ومئات الجنود والمعدات والعربات العسكرية للقاعدة الثانية "الجوية" في حميميم، التي تم تأسيسها في سبتمبر/أيلول 2015، وهي مركز قيادة القوات الروسية في سورية. وتابع "في حال رفع الإرهابيون رأسهم من جديد، نحن سنوجه إليهم ضربات لم يروها من قبل"، مضيفاً "نحن لن ننسى أبداً الضحايا والخسائر التي تكبدناها أثناء محاربة الإرهاب هنا في سورية وفي روسيا أيضاً". وأبلغ بوتين رئيس النظام السوري أنه يريد العمل مع إيران وتركيا لبدء عملية سلام سورية، معرباً عن أمله أن يكون بالإمكان بدء عمل "المؤتمر السوري للحوار الوطني"، والمتوقع أن يعقد في سوتشي، موضحاً أنه سيبحث الأمر خلال اجتماعاته المقبلة مع رئيسي مصر وتركيا.
وفي حين أن هذا الإعلان عن سحب قوات روسية من سورية ليس الأول من نوعه، إذ كانت موسكو أعلنت منتصف مارس/آذار 2016، وبالتزامن مع جولة مفاوضات "جنيف 3"، أنها قررت سحب قسم كبير من معداتها وقواتها العسكرية من سورية لروسيا، وهو ما لم يثبت حدوثه لاحقاً، فإن الحديث الآن عن سحب القوات الروسية يأتي في سياقات وظروف مختلفة، سياسياً وعسكرياً، عن 2016. ويُعتقد أن إعلان روسيا في مارس 2016، كان مدفوعاً بعاملين أساسيين، الأول هو إظهار صورة للمجتمع الدولي بأن موسكو تلعب دوراً إيجابياً في دفع عملية الحل السياسي السوري إلى الأمام، ولا تركز جهودها على الجانب العسكري فقط، والثاني يرجح أنه داخلي روسي، إذ كان كبار المسؤولين الروس قد أعلنوا مع بدء عمليات بلادهم العسكرية في سورية، نهاية سبتمبر/أيلول 2015، أنها لن تطول لأكثر من أربعة أشهر، وكانت مع الإعلان الروسي السابق بتخفيف وجود القوات الروسية بسورية، قد مر على تواجدها أكثر من خمسة أشهر.
لكن الإعلان الروسي الذي جاء على لسان رئيس الكرملين هذه المرة، ومن داخل سورية، يأتي في وقت رجحت فيه القوات الروسية كفة قوات النظام على حساب قوى المعارضة السورية، التي كانت فصائلها العسكرية قد أحرزت تقدماً ميدانياً كبيراً سنة 2015 من إدلب وريفي حماة واللاذقية شمالاً إلى درعا جنوباً، قبل بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، عبر حملات قصف جوي مكثف منذ 30 سبتمبر 2015، وتصاعدت في أكتوبر التالي وما بعده في ريفي حماة واللاذقية الشماليين اللذين كانا تحت سيطرة المعارضة السورية، ثم توسع لباقي مناطق سيطرة المعارضة في إدلب، وأرياف حلب وشرقي مدينة حلب، وشمال حمص ودرعا وريف دمشق وغيرها.
وحديث بوتين، أمس الاثنين، عن بدء سحب قوات ومعدات عسكرية لبلاده من سورية، يأتي بعد أن كرست مُخرجات أستانة ما بات يعرف بـ"مناطق خفض التصعيد"، التي جمدت فعلياً جبهات القتال بين الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة من طرف، مع قوات النظام والمليشيات المساندة لها من طرف آخر، رغم أن معارك عديدة ما تزال دائرة في بعض مناطق الاتفاقيات المبرمة، أبرزها في غوطة دمشق الشرقية، وريفي حماة الشمالي الشرقي وحلب الجنوبي الشرقي. كما أن الإعلان الروسي الآن عن بدء سحب معدات وقوات عسكرية روسية من سورية، يأتي غداة نشوة القضاء شبه النهائي على تنظيم "داعش" من مناطق سيطرته الأوسع والأقوى، والتي كانت مرتعاً له شرقي البلاد، بداية من تدمر ثم مختلف مناطق ريف حمص الشرقي، والبادية السورية، وريفي دير الزور الغربي وحماة الشرقي، بالإضافة للرقة وجنوب الحسكة وشرق دير الزور التي قاد التحالف الدولي العمليات العسكرية فيها. وهي مناسبة لا شك مغرية، لتدفع موسكو للقول إنها أنجزت مهمة القضاء على الإرهاب في سورية، والذي لم تولِه أهمية في بداية عملياتها العسكرية، إذ كانت أولوية موسكو في سورية إضعاف كافة "قوى الثورة والمعارضة"، قبل تطويعها باتفاقيات أستانة، وتوجيه الحملات العسكرية بعد تأمين جبهات المعارضة نحو جبهات تنظيم "داعش".
وبالعودة للزيارة المفاجئة، والتي بدا من التصريحات المقتضبة لبوتين فيها، أنه كان "وعد" الأسد بزيارة لسورية، وتم الإعداد لها، مثل زيارتي الأسد لموسكو وسوتشي، بسرية ولم يُعلن عنها حتى انتهائها، فإن دلالاتها البروتوكولية، كاختيار بوتين لزيارة قاعدة بلاده العسكرية في اللاذقية، لا عاصمة سورية الرسمية، تعطي انطباعاً، ربما يكون مقصوداً من روسيا، أنها تتحرك في سورية وتُحرك نظامها كما تشاء، وبأنها صاحبة الكلمة الفصل، فيما يتعلق بالميدانين العسكري والسياسي لهذا البلد. ويُذكّر إلى حد ما اختيار بوتين، الذي غادر اللاذقية إلى القاهرة، أن يلتقي رئيس النظام السوري في قاعدة روسيا العسكرية في سورية، بزيارة قام بها الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، إلى العاصمة المصرية منتصف سنة 2014، إذ استقبله داخل طائرته بمطار القاهرة، الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. وتُعطي رمزيات بروتوكولية كهذه دلالات لصورة طبيعة العلاقات بين طرفي الزيارة.
وتصف المعارضة السورية في بياناتها الرسمية خلال السنتين الأخيرتين، الوجود الروسي في سورية، بأنه احتلال. وترى أن دعم موسكو اللامحدود لنظام الأسد، دفع الأخير لرفض الانخراط في مفاوضات جدية تُنضج مسار حل للقضية السورية. وتوقعت مصادر في الهيئة العليا للمفاوضات، في حديث، لـ"العربي الجديد" أمس الاثنين، أن "تدفع زيارة بوتين النظام لمزيد من التمترس خلف مواقفه الرافضة للدخول في مفاوضات الانتقال السياسي، على اعتبار أن وفد النظام في جنيف سيقرأ في زيارة بوتين دعماً مُضافاً لبشار الأسد، الذي هو عقدة الحل الأساسية". وبعيداً عن التكهنات ومصداقية الإعلان الروسي ببدء سحب قوات ومعدات عسكرية من سورية، وما إذا كان حديث بوتين هذا للاستهلاك الإعلامي أم لا، فإن مصادر روسية رسمية، وهي "دائرة العمليات العامة التابعة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية"، كشفت أمس، بأن الطائرات الحربية الروسية، نفذت، منذ أول غارة لها في سبتمبر/أيلول 2015، "أكثر من 28 ألف طلعة، ووجهت نحو 90 ألف ضربة جوية" في سورية. وذكرت أنه و"في الأشهر الأخيرة كان الطيران الروسي ينفذ ما يصل إلى 100 طلعة يومياً، ويسدد ما يصل إلى 250 ضربة جوية في اليوم"، فضلاً عن القصف الصاروخي من البحر، ومشاركة حاملة الطائرات الروسية "الأميرال كوزنيتسوف" ضمن عمليات روسيا العسكرية في سورية.
ووفق حديث روسي رسمي من كبار المسؤولين في موسكو، وعلى رأسهم بوتين، فقد استثمر الجيش الروسي وجوده في سورية لاختبار نوعيات جديدة من الأسلحة والذخائر، إذ حول سورية إلى ميدان تجريب، في حين رفعت العمليات العسكرية الروسية في سورية حصيلة الضحايا من المدنيين، مع قتلها وجرحها المئات، فضلاً عن تسببها بنزوح وتشريد عشرات آلاف السكان من بلداتهم وقراهم. وفيما تصل العمليات العسكرية الروسية في سورية إلى نهايتها، مع تضاؤل جبهات القتال، فقد خسر الجيش الروسي، وفق أرقام رسمية لوزارة الدفاع في موسكو، 39 عسكرياً، بينهم ضباط، فضلاً عن أربع مروحيات قتالية وطائرتين حربيتين. ورغم عدم وجود أرقام رسمية، فإن التقديرات الجدية اليوم تتحدث عن وجود 5 آلاف جندي ومدني روسي عامل مع جيش هذا البلد على الأراضي السورية.