استطاع الحريري أن يفلت من الاعتقال، بعد 14 يوماً أمضاها في أجواء مشحونة بالتوتر، بفضل الحملة التي قامت بها الدولة اللبنانية، فهي لم تترك باباً إلا طرقته في باريس وواشنطن، وتمكنت الضغوط الفرنسية على نحو خاص من تأمين مغادرة الحريري، وزوجته والإبقاء على أطفاله محتجزين في الرياض كوسيلة لابتزازه والضغط عليه.
وعكست مسألة احتجاز الحريري سلوكاً غريباً من جانب السعودية، يتسم بالفظاظة وتجاوز لكل الحدود والمعايير، وعدم مراعاة ردود الفعل، ولولا أن الأمر هدد بأزمة دبلوماسية كبيرة بين فرنسا والسعودية لما خرج الحريري من هناك، وكان وضعه لن يختلف عن بقية المحتجزين، ومن بينهم شخصيات من أصول أخرى يمنية وفلسطينية تحمل الجنسية السعودية، ومارست العمل التجاري والاستثماري في السعودية، وتمكنت من تحصيل ثروات كبيرة.
تتحول عمليات الاحتجاز إلى مأزق سياسي وأخلاقي لولي العهد السعودي الذي يقف وراء هذا النمط الشاذ من السلوك، وتنعكس على نحو سلبي على سمعة ومكانة السعودية التي تحتل مكانة خاصة في المحافل العربية والإسلامية والدولية بفضل وزنها الاقتصادي والديني. وكلما طالت المسألة زاد ضررها، ولكن اللافت أن الأمر لا يحرك ساكناً لدى بن سلمان الذي يتصرف وكأنه يعيش في كوكب منفصل عن العالم، فهو لا يضيره إلى اليوم عدم تجاوب 99.99 من المحتجزين مع المعادلة التي طرحها "الحرية مقابل المال"، ولم تتم تسوية وضعية سوى الأمير متعب بن عبدالله ومسؤول المراسم السابق، أما البقية الباقية من المحتجزين فإنها لم تتجاوب مع عرض التسوية، وتتسرب أنباء عن رفض صريح صدر عن بعض الأمراء مثل الوليد بن طلال، الذي تقول التسريبات إنه قرر المواجهة رغم الخسائر الكبيرة التي تتكبدها شركاته في كل يوم.
وبعد مضي أكثر من شهر ونصف الشهر على توقيف الدفعة الأولى، باتت جملة من الأسئلة مطروحة على نحو واسع في الداخل والخارج، حول المخرج الملائم لهذه القضية، وطالما أن المحتجزين لم يتجاوبوا مع عروض التسوية، ما هي الخطوات اللاحقة التي سيتم القيام بها من طرف جهاز بن سلمان؟
حتى الآن فشل بن سلمان في مصادرة أموال المحتجزين المودعة في الخارج، ولم يتمكن من وضع اليد على الممتلكات التي تعود لهم، وهي على هيئة شركات وفنادق وعقارات. والسبب أن القوانين لم تمكنه من ذلك، ولذلك وصل إلى طريق مسدود، وباتت القضية مرشحة للتفاعل على نحو كبير داخل العائلة الحاكمة التي تبدو منقسمة بصورة حادة حول الموضوع، حيث بات "الجناح السديري" ضد الجميع.
بقي أن يتم تحديد وضع المحتجزين من الناحية القانونية، وإلى حد الآن لم يصدر عن الجهة التي قامت بعملية الاحتجاز أي بيان رسمي، يضع النقاط على الحروف، ويحدد الأسلوب الذي سيتم التعامل من خلاله مع رافضي مشروع التسوية القائم على "الحرية مقابل المال"، ومهما يكن من أمر فإن بن سلمان سوف يختار أحد الطريقين، إما الإفراج عن المحتجزين أو زجهم في السجون، وهو يكون بذلك قد دشن عهده بعملية خارج كل القوانين، لا سابق لها، وقدم صورة منفّرة عن بلاده التي باتت طاردة لرأس المال المحلي والأجنبي.