بين الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي و21 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، حكاية "أقصر استقلال" في أوروبا المعاصرة. في الأول من أكتوبر كان إقليم كتالونيا الإسباني يعلن بدء معركته الانفصالية عن إسبانيا عبر استفتاء لم توافق عليه الحكومة المركزية، في خطوة هزّت الركائز المالية لمدريد وللقارة العجوز. خطوة كادت تتحوّل إلى أزمة مزمنة في بلادٍ تعاني من صعوبات اقتصادية واجتماعية، وإلى صداع أوروبي عارم واحتمال تدحرج كرة الانفصال إلى أكثر من دولة. إلا أن التعامل العنيف للحكومة المركزية في مدريد، في قمع التظاهرات الانفصالية أولاً، ثم حلّ سلطات الإقليم ثانياً، ورفع دعاوى قضائية بحق الانفصالي الأول، الفارّ إلى بلجيكا مع عدد من معاونيه، كارليس بيغديمونت، ثالثاً، والدعوة إلى انتخابات إقليمية، هي الثالثة في غضون 5 سنوات، اليوم الخميس، رابعاً، كلها خطوات من شأنها القضاء على أحلام انفصال كتالونيا لفترة طويلة.
من يشاهد المباريات الأخيرة لفريق برشلونة لكرة القدم، يدرك أن حماسة جماهيره في الملعب، التي رافقت استفتاء الأول من أكتوبر تضاءلت أخيراً، على وقع "الانتصارات" القضائية لمدريد، بعد تحوّل الإقليم، بموجب المادة 155 من الدستور الإسباني، والتي فُعّلت في 21 أكتوبر الماضي، إلى إقليم معزول الصلاحيات، تُشرف عليه مدريد بالكامل. وخلال شهرين، تمكنت الحكومة المركزية من فكفكة كل أجنحة الانفصال، سواء بملاحقتها بيغديمونت قضائياً، واعتباره هارباً، بتهمة "التمرد والانشقاق والاختلاسات"، أو بسجنها أوريول خونكيراس، بالتهمة ذاتها.
بدورهما، فإن بيغديمونت وخونكيراس يتواجهان في معركتهما الخاصة لقيادة الإقليم، مع تشكيل بيغديمونت لائحته الانتخابية الخاصة لمواجهة "اليسار الجمهوري" الذي يمثله خونكيراس. حليفا الأمس باتا خصمين اليوم. مع ذلك، فإن نتائج الاستطلاعات لا تمنح أي فريق القدرة على التفرّد بالحكم. فحزب بيغديمونت "معاً من أجل كتالونيا"، نال في آخر استطلاع للرأي لصحيفة "ناسيونال"، وأُجري بين يومي 12 ديسمبر و19 منه، 20.1 في المائة، أما خونكيراس وحزبه "اليسار الجمهوري"، فنال 21.9 في المائة من أصوات المستفتين الألف. من جهته، حصل "المواطنون" على 23.4 في المائة من الأصوات، علماً أن الحزب لم يشارك في الأساس في أي استفتاء للانفصال، سواء "الرمزي" في عام 2015، أو "الفعلي" في العام الحالي. كما أنه تصدّر واجهة تظاهرات الوحدة مع إسبانيا في برشلونة في الشهرين الماضيين. وأيضاً في الاستطلاع المذكور، نال حزب "الشعب" 6 في المائة من أصوات المستفتين.
وإذا كانت بقية الأحزاب قادرة على التحرّك بحرية نسبية، إلا أن "اليسار الجمهوري" غير قادر على ذلك. وفي هذا الصدد، رأى راوول موريكا، وهو مساعد خونكيراس، أن "قدرتنا في التأثير على المواطنين قد تراجعت كثيراً. لا نستطيع المشاركة في نقاشات ولا إعطاء مقابلات ولا الذهاب إلى استديوهات التلفزيون". واقتصرت مشاركة خونكيراس على كتابة مقالات من زنزانته وإرسالها عبر البريد إلى مستشاريه لنشرها في وسائل الإعلام. غير أن كل الحملات الانتخابية انتهت مساء الثلاثاء، تاركة الباب مشرعاً أمام نتائج مجهولة تنتظر المتنافسين.
في إقليم الـ32108 كيلومترات مربّعة، وسكانه الـ7.5 ملايين نسمة، لا يبدو أي من أبنائه مرتاحاً، بل فقط ماريانو راخوي من بوسعه الشعور بالراحة، فقد حقق ما يريد في قمعه المسار الانفصالي للإقليم. كما نال دعماً أوروبياً ودولياً هائلاً في خطواته الميدانية، خصوصاً أثناء التعاطي المتشدد للشرطة الإسبانية مع المتظاهرين الكتالونيين الانفصاليين، وإصابة أكثر من ألف شخص بجروح. وبتقديمه اعتذاراً عن تصرّف شرطته، كسب دعماً داخلياً، على اعتبار أن أكثرية الإسبان، خارج كتالونيا، يرفضون استقلال الإقليم، عدا إقليم الباسك حيث توجد نزعة انفصالية قديمة وقوية. راخوي بات "بطلاً" بالنسبة لكثيرين، ومن المتوقع توظيفه كل عملية اقتراع في كتالونيا، لمصلحته في أي انتخابات عامة، ولمصلحة حزبه "الشعب".