ولعل الازدواجية بين ما تقوله روسيا في منابرها الدبلوماسية وما تقوم به قواتها على الأرض، برزت خلال معركة السيطرة على الجزء الشرقي من حلب نهاية العام الماضي. وبسبب الحملة العالمية، السياسية والإعلامية، الرافضة لقصف أحياء حلب الشرقية، بما في ذلك استهداف المراكز الطبية والأهداف المدنية، برعت موسكو في الكذب والتضليل للتستر على قوات النظام، التي تقوم بالقسط الأكبر من عمليات القصف، أو نفي مشاركة سلاحها الجوي في القصف، معلنة آنذاك توقف الطلعات الجوية في سماء حلب. وظهر الكذب الروسي بشكل أوضح من خلال الالتزامات المتكررة لروسيا بتأمين خروج آمن لمقاتلي المعارضة والمدنيين من شرق حلب، بينما كانت قوافلهم تتعرض لاعتداءات وتحرشات المليشيات الموالية لإيران، التي استطاعت في النهاية فرض شروطها، وإضافة بنود أخرى على الاتفاق. ويكشف التدقيق في بعض التصريحات الروسية خلال "معركة حلب" عن توزيع مدروس للأدوار بين المسؤولين الروس لخداع الرأي العام وكسب الوقت. فمثلاً، أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي، في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن بلاده "تعتبر جميع المسلحين في أحياء حلب الشرقية، أهدافاً مشروعة، لارتباطهم بجبهة النصرة"، بينما أكد المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في اليوم ذاته، أن "الهدنة لا تزال قائمة في الوقت الراهن، والعمل مستمر لضمان خروج المدنيين وإجلاء الجرحى من حلب الشرقية، وخلق الظروف اللازمة لإيصال المساعدات الإنسانية". وسخر من خبر أوردته صحيفة "التايمز" البريطانية حول توقيع الرئيس فلاديمير بوتين خطة لاجتياح أحياء حلب الشرقية.
واستمر بعد ذلك مسلسل الإخلال الروسي بالتعهدات، لتركيا ولفصائل المعارضة، سواء في منطقة وادي بردى، التي تم قصف قراها وتهجير أهلها، في ظل نفي روسي مستمر لوجود عمليات عسكرية في المنطقة، أم في محيط دمشق وحمص ودرعا وغيرها من المناطق. ولعل أبرز مثالين هما ما يحدث حالياً في الغوطة الشرقية بريف دمشق وفي حي الوعر بحمص، إذ أعلنت موسكو عن هدنة برعايتها، لكنها هدنة لم تحترم ولو ليوم واحد، لأن روسيا خضعت في النهاية لإرادة النظام الذي رأى أن شروط الهدنة لم تحقق أهدافه كاملة، وأراد مواصلة الضغط على قوى المعارضة في المنطقتين لإجبارها على التسليم بكل شروطه.
والسؤال المطروح هنا هو: هل تراجع روسيا يأتي بسبب عجزها عن فرض الهدنة على النظام، أم في إطار تقاسم الأدوار بين الطرفين؟ يقول مصطفى سيجري، رئيس المكتب السياسي في "لواء المعتصم" المشارك في قوات "درع الفرات" المدعومة من تركيا، لـ"العربي الجديد"، إن استمرار روسيا في هذا النهج لا يدع مجالاً للشك في أن الأمر عبارة عن توزيع للأدوار بين الجانبين، مشيراً إلى أن موسكو "لم تلتزم بأي تعهد، وهي تعتمد المراوغة والكذب". ورأى أن موسكو "تبحث عن تحقيق مكاسب سياسية واستمرار دعم نظام الأسد، مستغلة تفرّق صف المعارضة وضعف حلفاء الشعب السوري"، مستبعداً أن يكون ذلك مجرد تخبّط في السياسة الروسية، بل هو سياسة مدروسة وواعية. وعما إذا كان التناقض الذي يظهر أحياناً في المصالح الروسية والإيرانية هو الذي يجعل موسكو غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، بسبب ضغوط طهران على النظام، قال سيجري "في بداية الأمر كنا نظن أن الأمر كذلك، لكن مع استمرار روسيا في هذا النهج، نعتقد أن الأمر عبارة عن تبادل أدوار حتى هذه اللحظة، إلا في حال صرحت روسيا بضعفها وعدم قدرتها على إلزام النظام وإيران بالاتفاقات الموقعة".
من جهته، رأى المحلل السياسي، غازي دحمان، أن روسيا، ومعها النظام، كثيراً ما ينكثان في الوعود والالتزامات في إطار "الطمع" في تحقيق مزيد من المكاسب على الأرض، بعد استدراج قوى المعارضة إلى تنازلات معينة، فيكون أسهل عليها في هذه الحالة النكث في الاتفاقات لتحسين شروط الاتفاق حالما يلمسان ضعفاً وتراجعاً من جانب قوى المعارضة. ورأى دحمان، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أن تكثيف القصف في هذه الحالة يأتي خدمة للمفاوضين، بهدف زيادة الضغط على الطرف الآخر وإجباره على تقديم تنازلات في المفاوضات، مشيراً إلى أن ضعف الرقابة الدولية وغياب المحاسبة يجعلان روسيا والنظام في حلّ من أية مساءلة في حال نكثا في التزاماتهما، ما يُبقي المعارضة دائماً في حالة "قتال تراجعي"، من دون وجود حائط قوي تسند ظهرها إليه أمام تقدّم النظام، المدعوم من روسيا وإيران، متسلحين بالطائرات والمليشيات وبآلة كبيرة من الدعاية القائمة على التزوير والكذب.