تمر فرنسا هذه الأيام بأجواء اجتماعية ضاغطة، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية بكل مفاجآتها. ومن بين هذه الأحداث ما وقع للشاب ثيو، وقبله مقتل الشاب أداما تراوري بين أيدي الدرك، وارتفاع عدد ضحايا العنف البوليسي إلى 8 في السنة الأخيرة.
ولأن العنف البوليسي لم يعد موضعا للجدل، وتقر به المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، ومنها المنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان، وأيضا منظمة العفو الدولية، قررت عائلات ضحايا العنف البوليسي في سابقة، تنظيم مسيرة كبرى في باريس (من ساحة ناسيون إلى ساحة الجمهورية)، يوم الأحد 19 مارس/ آذار القادم. وقد التقت بعض هذه العائلات، يوم السبت 4 مارس/آذار من أجل التنسيق، في بورصة الشغل بباريس، وأيضا من أجل إطلاع الرأي العام على حقيقة المسيرة.
والجدير بالذكر أن هذا اليوم السنوي ليس جديدا، فثمة "يوم دولي ضد العنف البوليسي" وآخر "ضد العنصرية"، وتقرّرَ هذه السنة الجمع بين اليومين، لأن بينهما كثير من الروابط والتشابكات... وهكذا سيكون يوم 19 مارس فرصة للقاء بين كثير من الجمعيات والفعاليات من عموم فرنسا، حيث ستأتي حافلات من كل البلاد، ومن كل الأحياء الشعبية والضواحي، حتى يكون هذا اليوم تاريخيا. ويتمنى منظموه ألا يقتصر على التظاهر في يوم واحد بل أن يساهم في فتح نقاش يمتد في كل فرنسا ويتواصل مستقبلا.
وقد حرَّكت وفاة الشاب أمادو كومي، قبل سنتين، بين أيدي الشرطة الفرنسية في 6 مارس 2015 هذه الأنشطة وساهمت في تكريس هذا اليوم.
وتحدثت جيسيكا، أرملة أمادو كومي، عن ظروف موت زوجها، الذي قالت إنه مات اختناقا بين أيدي الشرطة، وأكّد التقرير الطبي أنه مات نتيجة إصابات الدماغ الرضية ورضوض في الوجه. وأضافت: "انتظرنا، خلال شهر، لكن لا شيء وصل، لا تقرير الشرطة ولا تقرير الطبيب الشرعي، فيما قرر المدعي العامّ ألّا يتابع أحدا. فقررتُ أن أصف ما وقع لصحيفة لوباريزيان، التي أعلنت أخيرا، عن وفاة أمادو، ثم توالت الأحداث فوصلنا التقرير الطبي الذي منحنا اليقينَ بأن أمادو اغتيل". والآن، تقول جيسيكا: "العدالة تمضي، ببطء، ولكننا حذرون ونرصد كل مستجد" لأنه، "ليست لدينا ثقة"، وقد قلتُها أمام القاضية، "أنتِ تنجزين، لحد الآن، عملا موضوعيا، ولكننا نراقب..".
وأضافت المتدخلة أنه: "يجب علينا كعائلات ضحايا الخروج من الصمت، والانضمام إلى العائلات الأخرى، لأن في الاتحاد قوة.. والعائلات تحس بالارتياح حين تشعر بالتعاطف من حولها. أحس الآن بأن رأسي مرفوع، وإن كنت لا أعرف نتائج القضاء، ولا أستطيع لحد الساعة أن أخبر ابننا (ست سنوات) بالحقيقة".
وختمت شهادتها: "أعرف أن العنف البوليسي أصبح يُنظر إليه من زاوية أخرى، وهذا بفضل كل النضالات التي تخاض هنا وهناك. ويجب أن يتوقف الإفلات من المحاسبة والعقاب، الذي يحظى به أفراد الشرطة، وهذا سيتم بفضل عمل الجمعيات التي تناضل ضد العنف البوليسي والصحافيين وعلماء الاجتماع".
كما تحدثت مقربة من عائلة حسين بوراس، من مدينة كولمار، والذي مات، يوم 24 أغسطس 2014، برصاصة في وجهه من طرف دركيّ، بينما كان مقيّدا وفي الطريق إلى المحكمة. وكان تبرير الشرطة أن حسين حاول الهرب. وتحدثوا عن سلاح ناري عُثِر عليه إلى جانب جثته، ولكنّ المحققين لم يجدوا أي بصمات تعود للقتيل. وعابت المتدخلة على الصحافة "مسارعَتَها إلى توصيف الراحل بالعنف، كما لو أنه كان مسؤولا عن وفاته، مستلهمة بيانات وزارة الداخلية". وأضافت: "لحد الساعة صدر حكمان قضائيان (2015 و2016) بتبرئة ساحة الدركي. ولكن العائلة، وتجمع (حقيقة وعدالة من أجل حسين بوراس)، مصمّمان على المضيّ حتى النهاية بإظهار الحقيقة، على الرغم من أن الكلفة المادية والإنسانية باهظة. وهكذا تمّ التوجه إلى محكمة النقض، وهو ما يتطلب مبلغ 4000 يورو، لا تستطيع العائلة توفيره لوحدها".
ثم تحدثت أمل بنتونسي، أيقونة النضالات ضد العنف البوليسي، أو "الجرائم البوليسية"، كما تصرّ على القول، والتي ساهمت، بقوة في تأسيس "استعجال، البوليس يقتل"، بعد أشهر من قتل الشرطة لأخيها الأصغر، أمين، في 21 أبريل/نيسان سنة 2012. وقالت: "تمّ تقديمه في التلفزيون باعتباره "مرتكبا كبيرا لِجُنَح متكررة تم قتلُهُ"، ولم يقل التلفزيون إنه مات برصاصة في ظهره".
وتحدثت بنتونسي عن تجمع "استعجال، البوليس يقتل" فقالت إنه تجمع يحاول أن يكون حاضرا مع كل العائلات التي تشبه وضعية عائلتها، وأيضا لكشف الحقيقة أمام الرأي العام، "فليس طبيعيا أن تعيش العائلة لوحدها مأساة فَقْد أحد أعضائها، وإذن يجب أن نمنح بعض الرؤية لما حدث، ونقدم رواية أخرى مختلفة عن رواية السلطات الأمنية".
تتحدث أمل بنتونسي عن أخيها فتقول: "لم يكن أخي أثناء اغتياله بصدد سرقة.. كان أمام مقهى، فجرى اتصال هاتفي مجهول مع الشرطة يتهم أمين".
وتضيف: "السجن طحنه، فالسلطات الأمنية دمّرت مستقبله، لأن فتى في الثالثة عشرة من عمره ليس هو من يختار".
وعن مجريات المحاكمة تقول: "الشرطي زعم أنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس، وقيل إن أمين ألقى قنبلة وهمية، ولكن البحث أثبت وجود أربع بصمات مختلفة ليس فيها بصمات أخي أمين. كما قيل إن سلاحا وُجدَ بجانبه حين قتل، ولكن لم يعثر على أي دليل يثبت أنه لأخي. أنا لم أصدّق فأمين لم تتلطخ يده أبداً بأي دم. والتقرير الطبي كشف أنه تلقى رصاصة في ظهره".
وتستذكر بنتونسي طول الوقت الذي قضته وهي تبحث عن شهود لما وقع، "لأن الشهود في القضايا التي يكون رجال الشرطة طرفا فيها ينتابهم الخوف من الشرطة ومن نتائج تقديم شهاداتهم"... ولكن "الصبر والتعبئة جعلانا ننجح في العثور على 6 شهود، منهم ثلاث محاميات، كنّ في عين المكان، وشهادتهن ناقضت الرواية البوليسية... لقد هاتَفن مخفر الشرطة فقيل لهن: "لسنا محتاجين لشهاداتكن"، فأصررن على قول الحقيقة".
وجرت أول محاكمة لقاتل أمين بنتونسي في 11 يناير/كانون الثاني 2016، أظهرت بعض الحقيقة وكشفت ما يجري في عالَم الشرطة. وتأتي المحاكمة الثانية التي تبدأ الاثنين 6 مارس/آذار إلى 10 مارس/آذار، و"هي مهمة، ونتمنى أن تكون النهائية" كما تقول أمل بنتونسي. وتضيف: "أتمنى من الصحافيين ألّا يكتفوا بنقل الرواية البوليسية لما حدث، فأنا منذ خمس سنوات، ومعي عائلات أخرى، نرى أن من المهم لنا "الكشف عن الحقيقة".
وأشارت أمل بنتونسي إلى ما وصفته بـ"كذب الشرطة"، وآخرها بيان يتحدث عن إنقاذ الشرطة لطفلة كانت في سيارة تحترق في مدينة بوبيني، أثناء التظاهرات الأخيرة المتضامنة مع ثيو، وثبت في النهاية، أن فتى أسود هو من غامَر بإنقاذها من السيارة بينما كانت الشرطة تتفرج على الأمر، بل رفضت تسلمها منه.
وتساءلت بنتونسي: إذا كانت الشرطة تمارس الكذب في حدث صغير كهذا، فكيف لا تكذب في قضايا أخرى أكثر خطورة؟
وكشفت بنتونسي أن تصنتا جرى على هاتف الشرطي، بعد مرور أسبوع على مقتل أخيها، كشف أنه لم يبد أي تعاطُف مع العائلة ووَاصَل سبّ الراحل.
وفي الأخير قالت أمل بنتونسي إن "المفتشية العامة للشرطة الوطنية" (IJPN)، قامت، لأول مرة، بعمل يستحق التنويه، وأضافت: قالت لي المحامية إنك "قمت بممارسة ضغوط، فلم يستطيعوا أن يفعلوا غير ما فعلوه".
وذكرت بنتونسي أن تعامل الشرطة لم يتغيَّر، وهو "قائم على العنف والكذب وتجريم الموتى بعد موتهم، واتهام الضحايا بالتمرد وإهانة موظفي الدولة أثناء مزاولتهم لعملهم. كما تحاول الشرطة إذلال العائلات ومتابعة أفرادها قضائيا كما كانت عليه حالتي وحالة عائلة القتيل أداما تراوري، الذي اعتقل أخوه مؤخرا، بتهمة الاعتداء المسلح على الشرطة، وهو ما قد يكلفه عدة سنوات سجنا، وكذلك الاستجواب المتكرر لأخته ووالدته، وهي حالة عائلات أخرى، أيضا، في محاولة لإسكاتها".
وختمت أمل بنتونسي مداخلتها: "نحن، هنا، لنقول إن "تجمع (استعجال، الشرطة تقتُلُ) موجود، ونحن منذ خمس سنوات لم نفوّت شيئا اقترفته الشرطة، ونتلقى شهادات عديدة عن عائلات قيل لها في مخافر الشرطة إن أبناءها شنقوا أنفسهم. وفي هذا الصدد أسسنا مع العائلات (المَرْصد الوطني للعنف البوليسي)، الذي سيرى النور يوم 15 مارس/آذار القادم، وهو تاريخ رمزي لأنه يتصادف مع اليوم الدولي ضد العنف البوليسي. والمَرصد ضروري لأن وراءه العائلات، وسيتيح لها أيضا أن تجد المكان الضروري لمعرفة حقوقها والإجراءات القانونية التي يمكن اتباعها".
وانتهى اللقاء بتوجيه نداء لحضور جماهيري وازن، يكسر الصمت ويُسائل السياسيين الراهنين والقادمين، خصوصا وأن فرنسا تستعد لتجديد رئيسها وبرلمانها.