في الطريق من لندن إلى بيرمنغهام، ثاني أكبر مدن بريطانيا، لم أكن أدري أي مدينة سأجد على بعد 200 كلم من العاصمة لندن. هل سأجد "منطقة محظورة" لغير المسلمين، كما وصفها أحد معلقي قناة "فوكس نيوز" في سبتمبر/ أيلول من العام 2015، و"موطن الإرهاب"، كما جاء في خلاصات تقرير صدر قبل أيام عن مؤسسة "هنري جاكسون"، أم أن بيرمنغهام هي فعلاً المدينة الإنكليزية الأفضل من حيث نوعية الحياة، بعد لندن، حسب تصنيف تقرير "غلوبال ميرسير لنوعية المعيشة" للعام 2017. وحسب هذا التصنيف العالمي، احتلت بيرمنغهام المرتبة 53 بين 231 وجهة عالمية، مُتقدمة بذلك على لوس أنجليس، وهونغ كونغ، وميامي.
مدينة ساهرة
وصلتُ المدينة ليلاً، وتعمدت الخروج على الفور إلى وسط المدينة، حيث كانت بيرمنغهام تعج بالحياة، مطاعم تقدم لروادها الأطباق التركية والإيرانية، والوجبات السريعة بنكهة أميركية، ومطاعم أخرى تستقبل الساهرين في أجواء إنكليزية تقليدية. في شارع "بورد ستريت"، كان المارة، من كل الأعمار والألوان، ذكوراً وإناثاً، يتجهون لقضاء ليلة صاخبة في النوادي الليلية دون الاكتراث بالجو البارد.
بدت المدينة آمنة مطمئنة، غير مشغولة بكل ما قيل أو يقال عنها في وسائل الإعلام التي حجت كاميراتها إلى أطراف المدينة لتصور موطن الإرهابي "خالد مسعود" أو "أدريان راسل أجاو"، الذي قُتل في لندن بعد أن دهس ثلاثة أشخاص على جسر ويستمنستر، وقتل شرطياً يحرس بوابة مبنى مجلس النواب.
في صباح اليوم التالي، استيقظت على بيرمنغهام، تشع بحيوية ونشاط ثاني أكبر مدن بريطانيا. على بعد خطوات قليلة من الفندق، كان "المركز الدولي للمؤتمرات" يحتضن مؤتمراً حول العلاقات الاستثمارية بين دولة قطر والمملكة المتحدة. أكثر من 500 مستثمر، ورجل أعمال، وممثلي شركات كبرى وصغرى، وأكاديميين من قطر وبريطانيا، تباحثوا وناقشوا طيلة يوم عمل كامل تحديات الراهن وفرص المستقبل في البلدين. وحظيت بيرمنغهام برعاية خاصة من المؤتمرين، الذين كشفوا عن خطط ومشاريع تنموية واستثمارية بملايين الجنيهات. وخلال ساعات، قدمت المدينة للزوار كل ما لديها من كنوز وخبرات وكفاءات وفرص، تجعلها قبلة للاستثمارات الطموحة.
عاصمة الإرهاب
غير بعيد عن وسط المدينة، وعن "المركز الدولي للمؤتمرات"، كانت للمدينة حكاية أخرى، حيث باتت الأحياء المُهمشة، "موطنا للإرهاب"، وبات المحرومون الأكثر ميلاً للتطرف، وصارت المدينة، حسب تقرير مؤسسة "هنري جاكسون"، "عاصمة الإرهاب" في بريطانيا. وجاء في تقرير الـ1000 صفحة، أن 39 إرهابياً خرجوا من مدينة بيرمنغهام التي يسكنها حوالى 230 ألف مسلم. وكشف التقرير الذي نشرته مؤسسة "هنري جاكسون" مطلع الشهر الماضي، أن خمس الـ269 شخصاً الذين حُكموا في قضايا لها علاقة بالإرهاب "الإسلاموي"، أو قتلوا في عمليات انتحارية في المملكة المتحدة ما بين 1998 و2015 تحدّروا من مدينة بيرمنغهام.
ورغم كل التحفظ على موضوعية التقرير، الصادر عن مؤسسة "هنري جاكسون" ذات الميول اليمينية، إلا أن جولة سريعة في أحياء "سبرنغفيلد"، و"سباركهيل" و"هول غرين"، و"هودج هيل"، ذات الكثافة المسلمة، التي وصفها التقرير بموطن الإرهابيين، تكشف عن مدى البؤس، والحرمان، والعُزلة التي تعيشها هذه الأحياء وساكنيها، ما يُشكل بيئة خصبة لنشر ثقافة الكراهية والتطرف، ومناخاً مواتياً لتغلغل "الخلايا" الإرهابية التي تنشط لتجنيد "الجهاديين".
لست أدري مثل غيري، ومثل أجهزة الحكومة البريطانية، ما الذي قاد فعلاً أدريان راسل، الذي اعتنق الإسلام وصار اسمه خالد مسعود، إلى استئجار سيارة من مدينة بيرمنغهام، والتوجه إلى لندن يوم 22 مارس/ آذار ليقتل ثلاثة أشخاص دهساً بسيارته، ثم يقتل شرطيا بطعنة مميتة، قبل أن يسقط برصاص الشرطة أمام البرلمان البريطاني، لكن الأكيد أن مثل هذه البيئة المعزولة، والأحياء المنغلقة والمحرومة ينتعش فيها "الإرهاب" ويتغذى "التطرف"، كما يؤكد تقرير "هنري جاكسون" وغيره من التقارير التي أنجزتها مراكز الأبحاث الأكاديمية والأمنية البريطانية منذ الهجمات الإرهابية التي ضربت لندن في 7/7 من العام 2005.
موطن القرآن
خارج أحزمة الفقر، وبؤر "التعبئة" التكفيرية، يُظهر سكان بيرمنغهام من مسلمين وغيرهم اعتزازاً بروح التعايش التي تسود بين مكونات المجتمع. بل إن المدينة تُعرف بأنها موطن لأقدم نسخ المصحف الشريف في العالم. وقد حرصت إدارة جامعة بيرمنغهام على عرض هذا الكنز خلال زيارة رئيس الوزراء القطري ونظيرته البريطانية لـ"مركز المؤتمرات الدولي"، لافتتاح منتدى الاستثمار والأعمال القطري البريطاني. وكانت الباحثة في جامعة بيرمنغهام، ألبا فيديلي، عثرت قبل عامين على صفحات غير متتالية من مصحف تبين بعد فحصها بتقنية الكربون المشع، أن عمرها يبلغ نحو 1370 عاماً، وهو ما قد يجعلها من أقدم نسخ المصحف في العالم. وقالت إدارة الجامعة إن هذا الإكتشاف المثير تم بمحض الصدفة بعد أن ظلت الصفحات محفوظة لحوالي 100 سنة على رفوف مكتبة الجامعة ضمن مجموعة أخرى من كتب ووثائق عن الشرق الأوسط دون أن يلتفت إليها أحد. وبيّن الفحص الذي أجري في وحدة تقنية الكربون المشع في جامعة أوكسفورد أن النص مكتوب على قطع من جلد الغنم أو الماعز، وأنها من بين أقدم نصوص القرآن المحفوظة في العالم. واستطاع الباحثون تقدير عمر المخطوطة وأنها كُتبت ما بين 568 و645 ميلادية، وهو ما يوازي الفترة من العام 80 قبل الهجرة إلى السنة 24 هجرية، وهو ما يعني أن المخطوطة قد تكون كُتبت بواسطة أحد الصحابة ممن عاصروا النبي محمد.
مدينة ساهرة
وصلتُ المدينة ليلاً، وتعمدت الخروج على الفور إلى وسط المدينة، حيث كانت بيرمنغهام تعج بالحياة، مطاعم تقدم لروادها الأطباق التركية والإيرانية، والوجبات السريعة بنكهة أميركية، ومطاعم أخرى تستقبل الساهرين في أجواء إنكليزية تقليدية. في شارع "بورد ستريت"، كان المارة، من كل الأعمار والألوان، ذكوراً وإناثاً، يتجهون لقضاء ليلة صاخبة في النوادي الليلية دون الاكتراث بالجو البارد.
بدت المدينة آمنة مطمئنة، غير مشغولة بكل ما قيل أو يقال عنها في وسائل الإعلام التي حجت كاميراتها إلى أطراف المدينة لتصور موطن الإرهابي "خالد مسعود" أو "أدريان راسل أجاو"، الذي قُتل في لندن بعد أن دهس ثلاثة أشخاص على جسر ويستمنستر، وقتل شرطياً يحرس بوابة مبنى مجلس النواب.
في صباح اليوم التالي، استيقظت على بيرمنغهام، تشع بحيوية ونشاط ثاني أكبر مدن بريطانيا. على بعد خطوات قليلة من الفندق، كان "المركز الدولي للمؤتمرات" يحتضن مؤتمراً حول العلاقات الاستثمارية بين دولة قطر والمملكة المتحدة. أكثر من 500 مستثمر، ورجل أعمال، وممثلي شركات كبرى وصغرى، وأكاديميين من قطر وبريطانيا، تباحثوا وناقشوا طيلة يوم عمل كامل تحديات الراهن وفرص المستقبل في البلدين. وحظيت بيرمنغهام برعاية خاصة من المؤتمرين، الذين كشفوا عن خطط ومشاريع تنموية واستثمارية بملايين الجنيهات. وخلال ساعات، قدمت المدينة للزوار كل ما لديها من كنوز وخبرات وكفاءات وفرص، تجعلها قبلة للاستثمارات الطموحة.
عاصمة الإرهاب
غير بعيد عن وسط المدينة، وعن "المركز الدولي للمؤتمرات"، كانت للمدينة حكاية أخرى، حيث باتت الأحياء المُهمشة، "موطنا للإرهاب"، وبات المحرومون الأكثر ميلاً للتطرف، وصارت المدينة، حسب تقرير مؤسسة "هنري جاكسون"، "عاصمة الإرهاب" في بريطانيا. وجاء في تقرير الـ1000 صفحة، أن 39 إرهابياً خرجوا من مدينة بيرمنغهام التي يسكنها حوالى 230 ألف مسلم. وكشف التقرير الذي نشرته مؤسسة "هنري جاكسون" مطلع الشهر الماضي، أن خمس الـ269 شخصاً الذين حُكموا في قضايا لها علاقة بالإرهاب "الإسلاموي"، أو قتلوا في عمليات انتحارية في المملكة المتحدة ما بين 1998 و2015 تحدّروا من مدينة بيرمنغهام.
ورغم كل التحفظ على موضوعية التقرير، الصادر عن مؤسسة "هنري جاكسون" ذات الميول اليمينية، إلا أن جولة سريعة في أحياء "سبرنغفيلد"، و"سباركهيل" و"هول غرين"، و"هودج هيل"، ذات الكثافة المسلمة، التي وصفها التقرير بموطن الإرهابيين، تكشف عن مدى البؤس، والحرمان، والعُزلة التي تعيشها هذه الأحياء وساكنيها، ما يُشكل بيئة خصبة لنشر ثقافة الكراهية والتطرف، ومناخاً مواتياً لتغلغل "الخلايا" الإرهابية التي تنشط لتجنيد "الجهاديين".
لست أدري مثل غيري، ومثل أجهزة الحكومة البريطانية، ما الذي قاد فعلاً أدريان راسل، الذي اعتنق الإسلام وصار اسمه خالد مسعود، إلى استئجار سيارة من مدينة بيرمنغهام، والتوجه إلى لندن يوم 22 مارس/ آذار ليقتل ثلاثة أشخاص دهساً بسيارته، ثم يقتل شرطيا بطعنة مميتة، قبل أن يسقط برصاص الشرطة أمام البرلمان البريطاني، لكن الأكيد أن مثل هذه البيئة المعزولة، والأحياء المنغلقة والمحرومة ينتعش فيها "الإرهاب" ويتغذى "التطرف"، كما يؤكد تقرير "هنري جاكسون" وغيره من التقارير التي أنجزتها مراكز الأبحاث الأكاديمية والأمنية البريطانية منذ الهجمات الإرهابية التي ضربت لندن في 7/7 من العام 2005.
موطن القرآن
خارج أحزمة الفقر، وبؤر "التعبئة" التكفيرية، يُظهر سكان بيرمنغهام من مسلمين وغيرهم اعتزازاً بروح التعايش التي تسود بين مكونات المجتمع. بل إن المدينة تُعرف بأنها موطن لأقدم نسخ المصحف الشريف في العالم. وقد حرصت إدارة جامعة بيرمنغهام على عرض هذا الكنز خلال زيارة رئيس الوزراء القطري ونظيرته البريطانية لـ"مركز المؤتمرات الدولي"، لافتتاح منتدى الاستثمار والأعمال القطري البريطاني. وكانت الباحثة في جامعة بيرمنغهام، ألبا فيديلي، عثرت قبل عامين على صفحات غير متتالية من مصحف تبين بعد فحصها بتقنية الكربون المشع، أن عمرها يبلغ نحو 1370 عاماً، وهو ما قد يجعلها من أقدم نسخ المصحف في العالم. وقالت إدارة الجامعة إن هذا الإكتشاف المثير تم بمحض الصدفة بعد أن ظلت الصفحات محفوظة لحوالي 100 سنة على رفوف مكتبة الجامعة ضمن مجموعة أخرى من كتب ووثائق عن الشرق الأوسط دون أن يلتفت إليها أحد. وبيّن الفحص الذي أجري في وحدة تقنية الكربون المشع في جامعة أوكسفورد أن النص مكتوب على قطع من جلد الغنم أو الماعز، وأنها من بين أقدم نصوص القرآن المحفوظة في العالم. واستطاع الباحثون تقدير عمر المخطوطة وأنها كُتبت ما بين 568 و645 ميلادية، وهو ما يوازي الفترة من العام 80 قبل الهجرة إلى السنة 24 هجرية، وهو ما يعني أن المخطوطة قد تكون كُتبت بواسطة أحد الصحابة ممن عاصروا النبي محمد.