تشهد الجزائر، غداً الخميس، انتخابات برلمانية، هي الأولى التي تجري في ظل تعديل هيكلي عميق في بنية السلطة العميقة ومكوناتها، خصوصاً بالنسبة إلى جهاز الاستخبارات. وتتداخل عوامل كثيرة في توجيه الكتلة الناخبة في الجزائر، لكن جملة هذه العوامل لا تتيح توقع سيناريوهات واضحة عن انتخابات الخميس.
وبرغم انفلات الجيل الجديد من الشباب في الجزائر من محددات القبيلة و"العرش"، بسبب التعليم والاتصال التكنولوجي، وبفعل انهيار المؤسسات الاجتماعية العرفية، إلا أن "العرش"، كمكون اجتماعي، في المناطق الداخلية في الجزائر، كمدن الصحراء، حيث زعامات الطوارق، والسهوب، حيث أعيان "العروش" (الاسم المحلي للقبائل الكبرى)، ما يزال يسهم بفعالية في توجيه الناخبين في الاستحقاقات الانتخابية، ويدفع بالمنضوين تحت كيانه للتصويت لطرف ما، من دون الأخذ بعين الاعتبار المحددات الحزبية، التي لا تمثل في نظر القبيلة سوى الإطار القانوني للترشح والتمثيل السياسي. والحقيقة أن النزعة القبلية و"العرش" في الجزائر، وإن كانت ليست بالمفهوم التقليدي للقبيلة، سرعان ما تتوهج في هكذا مناسبات سياسية. ولا يبدو "العرش" في الجزائر، ككيان اجتماعي، معنياً بأي مطالبات سياسية تتعلق بالمحددات الكبرى للدولة والمجتمع، لكنه يبدو معنياً أكثر بالمطالب الاقتصادية واليومية لأفراده.
وزيادة على الاعتبارات القبلية، يؤدي الانتماء الحزبي دوراً بارزاً في رسم توجهات الناخبين في الجزائر، إذ ما زالت الأحزاب التقليدية، كالحزب التاريخي جبهة التحرير الوطني، وجبهة القوى الاشتراكية، أقدم أحزاب المعارضة السياسية ويتمركز في منطقة الأمازيغ، والأحزاب الإسلامية، مثل حركة مجتمع السلم التي تمثل تيار الإخوان المسلمين في الجزائر، تحتفظ بوعائها الانتخابي وكتلتها من المناضلين المتمسكين بالولاء السياسي لها، برغم جملة من المشاكل الداخلية التي عرفتها هذه الأحزاب. ويلغي عامل الانتماء الحزبي للناخبين أية أولوية للنقاش حول البرامج الانتخابية بشقيها الاجتماعي والاقتصادي، والتي تؤثر بشكل مباشر على الكتلة الناخبة في الجزائر، إذ ما زال الناخب الجزائري يصوت على أساس انتماءات حزبية أو قبلية أو بتأثير مالي أكثر من البرامج والأفكار التي تطرحها الأحزاب السياسية. وبرغم أن الجزائر شهدت منذ بداية التعددية السياسية في العام 1989، خمسة استحقاقات انتخابية برلمانية، إلا أن التنافس الانتخابي في الجزائر لا تشكله البرامج والطروحات حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ولا تعد قضايا الصحة والعمل والضمان الاجتماعي والتقاعد والتعليم وغيرها، المحور الرئيس في النقاش الانتخابي، أو نقاطاً فاصلة في رسم محدد تصويت الناخبين في الجزائر. وتشير نتائج الانتخابات السابقة – وبغض النظر عن مسألة تزويرها – إلى أن الناخب الجزائري مرتبط بنمط انتخابي يعطي الفرصة لأحزاب السلطة لتجديد فوزها، برغم تسببها بتأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد وإخفاق الحكومات المشكلة منها في حل المشاكل المزمنة، كالعمل والسكن والصحة والتعليم، إذ فازت جبهة التحرير الوطني، الحزب الرئيس للسلطة، بـ220 مقعداً من مجموع 462 مقعداً في انتخابات 2012.
وما يؤدي إلى عملية توجيه نسبي للناخبين لصالح أحزاب المعارضة هذه المرة أكثر، هو بروز النقابات المستقلة التي سيطرت على قطاع واسع من ساحة العمل النقابي ودخلت في مواجهة مفتوحة مع الحكومة، ونجحت في تحقيق منجزات مهنية كبيرة لصالح العمال، في مقابل انسحاب تأثير النقابة التاريخية، اتحاد العمال الجزائريين، كبرى النقابات العمالية في البلاد، بسبب دعمه الدائم للحكومة مهما كانت قراراتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية وتمترسه وراء أحزاب السلطة. وقدمت النقابات المستقلة كوادر فاعلة إلى قوائم أحزاب المعارضة في الاستحقاق الانتخابي المقبل. غير أن عاملاً آخر بات ينافس عقيدة الولاء السياسي للأحزاب التقليدية وطموحات الكوادر والنقابات العمالية، وهو "الكارتل" المالي. فأكثر من أي استحقاق انتخابي سابق، برز "الكارتل" المالي كلاعب رئيس في انتخابات مايو/ أيار الحالي. فقد نجح عدد كبير من رجال المال والأعمال، المنخرطين في لوبيات اقتصادية محلية، في السيطرة على قوائم المرشحين في كبرى الأحزاب السياسية المنافسة في الجزائر، وذلك عبر الاستفادة من عاملين. ويتعلق الأول بتراجع سيطرة جهاز الأمن والاستخبارات على العملية الانتخابية، ما مكنهم من التفلت من الرقابة الاستباقية للسلطة. ويتعلق الثاني بحاجة السلطة نفسها إلى "الكارتل" في التسيير الاجتماعي للمرحلة المقبلة، إذ لم يعد في رصيد السلطة الموازنات الكافية لشراء السلم الاجتماعي. وفي السياق سيؤدي المال دوراً بارزاً في رسم مخرجات نتائج الانتخابات المقبلة، في صورة الإنفاق الكبير لرجال المال والأعمال على الحملة الدعائية وشراء أصوات الناخبين، خصوصاً في المناطق الريفية ومدن الداخل.
ومقابل عوامل التأثير في توجيه الكتلة الناخبة في الجزائر، انسحبت عوامل كان لها تأثيرها الواضح في رسم مخرجات الانتخابات السابقة. وتسجل الجزائر في الرابع من مايو الحالي في رصيدها أول انتخابات برلمانية في ظل الوضع الجديد لجهاز الاستخبارات، الذي كان يهيمن بشكل مباشر على رسم مخرجات الاستحقاقات الانتخابية السابقة، إذ نجح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعد 16 سنة من حكمه، في إزاحة قائد جهاز الاستخبارات، الجنرال محمد مدين، وتفكيك جهاز الاستخبارات وتقسيمه إلى ثلاثة أجهزة ومنعه من التأثير على المشهد السياسي، واستفراد محيط الرئاسة بالدور الأبرز والمباشر في صناعة توجهات أحزاب السلطة. كما أن المؤسسة العسكرية انسحبت إلى حد بعيد عن التأثير المباشر في الاستحقاق الانتخابي البرلماني، بتأكيدها الوقوف على الحياد والتزامها فقط بتأمين الانتخابات، وأن المؤسسة العسكرية لا تبدو مهتمة بقدر كبير بالتدخل في رسم مخرجات الانتخابات البرلمانية، وما يهمها بشكل رئيس هو الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في ربيع 2019، والتي لها تأثير مباشر على وضع المؤسسة العسكرية وخياراتها.
وإذا كانت السلطة قد أخفقت في إبعاد النقابات عن المشهد السياسي والانتخابي، فإنها نجحت في المقابل في تحييد المؤسسات المسجدية والدينية عن أي دور حزبي، على خلفية انفلات المؤسسة الدينية في انتخابات 1991 ودعمها للجبهة الإسلامية للإنقاذ حينها. واللافت تقلص توظيف الطرح الديني في خطاب الأحزاب السياسية في الانتخابات، وتراجع تأثيرها على توجيه الناخبين لصالح حزب أو تيار معين، بعد توظيف السلطة للمؤسسة الدينية وشيوخ الزوايا ورجال الدين في الدعوة للانتخاب ورفع نسبة التصويت. وظهر هذا الأمر جلياً في البيان الذي وقعه علماء وشيوخ الزوايا ورجال الدين، قبل أيام، لدعوة الناخبين للتصويت، رداً على دعوات المقاطعة التي أعلنتها أحزاب ونشطاء سياسيين، أبرزهم حزب طلائع الحريات، بقيادة رئيس الحكومة السابق، علي بن فليس، وحزب جيل جديد، ونشطاء سابقون في حركة بركات المناوئة للولاية الرئاسية الرابعة لبوتفليقة، والذين نشطوا لحث الناخبين على مقاطعة الانتخابات.
لكن مقاطعة الانتخابات في الجزائر لا تتأثر، في الغالب، بدعوة حزبية، ولا تعبر عن تبني موقف حزبي. ففي استحقاق مايو 2012، بلغت نسبة المقاطعين 57 في المائة برغم أنه لم يكن هناك أي من الأحزاب السياسية قد دعا إلى المقاطعة، وكان الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي للبلاد أفضل بكثير، ومستويات المعيشة أفضل من الوضع الحالي. وتتخوف السلطة من أن تسهم الأوضاع الاجتماعية وارتفاع الأسعار في عزوف الناخبين، وهي تبحث عن تحقيق شرعية سياسية للبرلمان المقبل، ما يفسر اندفاع السلطة وتركيزها لجهودها السياسية والدعائية لحث الناخبين على أداء واجب الانتخاب في الرابع من مايو. وقبل 48 ساعة من بدء المنازلة الانتخابية في الجزائر، يصعب رسم سيناريوهات محتملة للتوجهات الكبرى للناخبين. ويعتقد المراقبون أن انسحاب عوامل التأثير المباشر في الانتخابات، كجهاز الاستخبارات، ودخول عامل المال، واستمرار الأحزاب التقليدية في الاحتفاظ بكتلتها الناخبة، قد تفضي إلى تقارب في توجهات الناخبين غداً الخميس.