بيدين ترتجفان، ليس من قلة الثقة، ولكن بفعل الزمان، أمسكت الثمانينية تركية علي سعدة (أم سعيد)، "شعلة العودة" في قرية ميعار المهجرة في الجليل، نهار الثلاثاء، لتسلمها إلى أحفادها، وأوصتهم بحمل الرسالة ومتابعة المشوار.
"شعلة العودة" طقس مُستحدثٌ على اللقاء السنوي الذي يُقام على أرض ميعار، بمشاركة أهلها المهجرين، بالتزامن مع احتفال المؤسسة الإسرائيلية بمناسبة ما تسميه زوراً وبهتاناً "يوم الاستقلال"، في الوقت الذي يحيي فيه الفلسطينيون في الداخل والخارج ذكرى نكبتهم وتهجيرهم. وتأتي "شعلة العودة" كرد على "شعلة الاستقلال" التي توقدها المؤسسة الإسرائيلية في احتفالاتها.
جلست الحاجة تركية بين جموع المجتمعين على أنقاض القرية المنكوبة، لكن عينيها جابتا من مجلسها كل زاوية يمكنهما الوصول إليها، متفحصة حال القرية بعد 69 سنة على مغادرتها عنوة.
"يا ريتنا مُتنا قبل ما طلعنا"
اختلطت المشاعر على الحاجة تركية، "أنا مبسوطة إني هون بس حزينة"، قالت في حديث لـ "العربي الجديد".
هي سعيدة كما أوضحت بوجودها على أرض ميعار، لكنها حزينة على ضياعها. بعد برهة تابعت: "يا ريتنا مُتنا قبل ما طلعنا، يا ريت متنا ولا طلعنا" أكدت مرتين. وذكرت أنه لشرف لها أن تكون هي من توقد الشعلة الأولى في ميعار.
غازي شحادة، عضو "لجنة الزعتر والصبار"، المنظمة للنشاط في القرية، تحدث عن فكرة "شعلة العودة"، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنها "فكرتي وجاءت كرد على ما تسمى شعلة الاستقلال الإسرائيلية. شعلتنا شعلة حق يجب أن تبقى متّقدة. دائماً في مثل هذا الموعد نحيي ذكرى نكبتنا بالتزامن مع احتفالات الإسرائيليين".
وأضاف: "هذه الشعلة هي تجديد لم يكن مألوفاً في ميعار ونتمنى نقلها للقرى المهجرة الأخرى. ننقلها للجيل الجديد ليفهم ويتابع المسير. هناك من يرى أن العودة حلم مستحيل، بيد أننا نؤمن أنه حلم لا بد أن يتحقق يوماً ما. من حقنا أن نعيش فوق أرضنا، فلا يعقل أن يستقدموا أشخاصاً من أرجاء المعمورة ليستوطنوا على أرضنا فيما نحرم نحن منها".
اختتم: "الأمر الأهم في كل هذه الطقوس أن يبقى الجيل الجديد متسلحاً بحق العودة إلى أن تتحقق".
قبران "يتحدثان" للناس
على مرمى حجر من الحاجة أم سعيد، توقف محمد العلي، يتأمل قبرين متجاورين، حجمهما كبير نسبياً مقارنة بمعظم القبور في القرية المنكوبة. "هذا ضريح جدي صالح أحمد العلي والد أبي، وهذا ضريح شقيقه إبراهيم أحمد العلي"، قال لـ"العربي الجديد"، مستدركاً: "هذان شاهدان صامتان على أن هذه الأرض لنا. هذان القبران يتحدثان، كما كل هذه القبور، لنا ولأبنائنا وأحفادنا وللجميع، ويقولان إن الحق لنا في هذه الأرض، ولا تنازل عن العودة ولو طال الزمان".
وأوضح العلي أنه يواظب على زيارة قرية ميعار، ويهتم دائماً بإطلاع الجيل الجديد من عائلته على معالمها ويعرفهم عليها، وأن زياراته لا تنقطع على مدار العام.
"غصة كبيرة في القلب نشعر بها دائماً، لكنها تزداد مع كل ذكرى نكبة وتتأجج من جديد. حنيننا لا يتوقف لهذه الأرض"، اختتم العلي كلامه.
مشهد مُبكٍ
من جهته، قال الحاج صالح سعدة لـ"العربي الجديد"، إن "هذا يوم حزين، ونتذكر فيه كيف كنا نعيش في قريتنا قبل التهجير. نتذكر العلاقات القوية والمحبة التي كانت تسود ميعار. في 18 حزيران 1948 تشرد أهالي القرية في الداخل والخارج. في منطقة عكا لوحدها توزع أهالي ميعار على نحو 15 بلدة عربية. مشهد التهجير لا يزال حاضرا في ذاكرتي. لم يكن هناك من يدافع عن البلدة. كان عمري نحو ست سنوات ونصف السنة، وكنت طالباً في الصف الثاني في مدرسة القرية، ورغم صغري فإن الحدث أثر بي وبقيت مشاهد منه عالقة في ذهني".
وأردف سعدة: "حرمنا من العودة منذ 69 عاماً لكن العودة حق ولن نتنازل عنها. عندما آتي إلى ميعار وأتأمل هذه الأرض وهذا الركام، أبكي على نفسي وأبكي على مجتمعي، وعلى أصدقائي وأبناء صفّي الذين لم أرهم منذ ذلك اليوم، فمنهم من وصل إلى لبنان وسورية والعراق وغيرها خلال التهجير، وفُرقنا بعد ذلك".
"عندما أرى هذا المشهد"، يقول سعدة وهو يؤشر بيديه إلى مستوطنة "ياعاد" الإسرائيلية المقامة على أرض ميعار، "أبكي من الداخل وأحيانا من الخارج. نحن مهجّرون نسكن على مسافة قريبة من قريتنا الأصلية ولا نستطيع العودة إليها لأن غريباً استوطنها. أرضي بقربي ولكني لا أملكها وأحمل صفة لاجئ حتى اليوم. لاجئ أنا في وطني وهذه كلمة صعبة جداً جداً".
وحول الأمل قال: "دائما أصطحب أحفادي إلى ميعار. أعرّفهم بالقرية وكيف كان يعيش أهلها. أضع في داخلهم حبها وأهمية عدم التنازل عنها. أحيانا أيضا أحكي لهم بعض النكت عن ميعار لأن النكتة يمكن أن تخلد في الذاكرة، وهذه الأجيال الصغيرة هي الأمل".
يشار إلى أن القرية شهدت برنامجا ملتزما، تخللته عدة كلمات، بعضها تطرقت لقضية الأسرى، وفقرة فنية والتقاط صور على أرض ميعار.