بعد ثلاث سنواتٍ وأربعة أشهرٍ على عقد اتفاقية هدنة برزة البلد الشهيرة، التي روّج إعلام النظام السوري لها بشكل واسع حينها، لاتخاذها نموذجاً يحتذى به في مناطق أخرى كانت تُعتبر جبهات معارك مع فصائل المعارضة السورية، يبدو أن استراتيجية النظام الهادئة لإنهاء تواجد معارضيه بمحيط دمشق وصلت إلى خواتيمها، مع بداية تنفيذ اتفاقٍ تم التوصل إليه مساء الأحد، يقضي بخروج مقاتلي المعارضة مع عائلاتهم ومدنيين آخرين من برزة البلد. ويُتوقع أن يلاقي حيا القابون وتشرين مصيراً مشابهاً، مع وصول مفاوضاتٍ بهذا الشأن لمرحلة متقدمة.
وعلى الرغم من دخول اتفاق إنشاء أربع مناطق لـ"تخفيف التصعيد"، حيّز التنفيذ منذ فجر السبت الماضي، إلا أن النظام وروسيا الضامنة له في الاتفاق، استثنيا حي القابون من المنطقة الثالثة (الغوطة الشرقية) بدعوى سيطرة "هيئة تحرير الشام" على كامل الحي، وهو ما تنفيه المعارضة، فيما لم يرد ذكرٌ لحي برزة المجاور في هذه الاتفاقية، بالوقت الذي تمخضت عمليات النظام العسكرية هناك عن رضوخ فصائل المعارضة في برزة لاتفاقٍ يقضي بخروجها من الحي إلى محافظة إدلب، ومدينة جرابلس بريف حلب الشرقي.
ويأتي ذلك بالتزامن مع عمليات إخلاء أخرى لعناصر من "هيئة تحرير الشام" في مخيم اليرموك بدمشق؛ إذ تأتي مع استكمال اتفاق "المدن الأربع" والذي نص على خروج مقاتلي "هيئة تحرير الشام" من أحياء جنوب مدينة دمشق، مقابل إجلاء النصف الثاني من أهالي بلدتي الفوعة وكفريا المواليتين للنظام في ريف إدلب، في حين يستمر تطبيق اتفاق التهجير في حي الوعر بمدينة حمص، ومن المتوقع أن تنطلق المرحلة التاسعة منه غداً، الأربعاء.
وبدأ ظهر أمس الاثنين، مئاتٌ من مقاتلي المعارضة ومدنيون آخرون من سكان برزة البلد بالاستعداد لمغادرة المنطقة، ضمن اتفاقٍ تم التوصل إليه مساء الأحد، يقضي بخروجهم إلى الشمال السوري. وأوضحت مصادر محلية هناك لـ"العربي الجديد"، أن "الدفعة الأولى تضم نحو 1500 شخص من مقاتلي المعارضة السورية المسلحة وعائلاتهم، ومدنيين آخرين" من سكان حيٍ كان شهد تظاهراتٍ سلميةٍ حاشدة سنة 2011، ثم شهد معارك وتطوراتٍ كثيرة على مدار السنوات الست الماضية. وحي برزة البلد من أوائل الأحياء التي شهدت تظاهرات مناهضة للنظام السوري في مارس/ آذار 2011.
في 22 إبريل/ نيسان 2011، خرجت مئات التظاهرات في سورية تحت اسم "الجمعة العظيمة"، وكانت بداية نزيف الدماء في دمشق، وتحديداً في برزة البلد. وسقط أول قتلى التظاهرات السلمية في العاصمة السورية بنيران قوات الأمن، التي اتخذت قراراً مسبقاً بالتصدي للتظاهرات بالرصاص الحي، بعدما فقدت إمكانية السيطرة عليها نتيجة للتزايد المتسارع بأعداد المشاركين فيها.
في اليوم التالي، وأثناء تشييع جثامين قتلى "الجمعة العظيمة"، أطلقت قوات أمن النظام الرصاص على حشود المشيعين في برزة البلد، ما أدى لسقوط قتلى جدد، وأصبح عدد القتلى المدنيين في الحي أكثر من عشرة أشخاص في أقل من 24 ساعة. واستمرت التظاهرات بالتوسع، ليسقط قتلى جدد لاحقاً، وصولاً لمنتصف عام 2012، الذي بدأ فيه الحراك المسلّح من قبل عناصر منشقين عن قوات النظام وآخرين انضموا لهم من المدنيين، مع بدايات ظهور تشكيلات الجيش السوري الحر.
حي برزة الواقع شمال شرقي مدينة دمشق، والتابع لها إدارياً، يُقسم عملياً إلى أربعة أقسام، هي: برزة البلد، ومساكن برزة، وبرزة مسبق الصنع، وبساتين برزة. وتقع كلها عند نهاية سفوح جبل قاسيون الشمالية الشرقية، على تخوم الغوطة الشرقية لدمشق. كما يقع حي القابون عند أطراف برزة الجنوبية الشرقية، فيما تتاخم الحي جنوباً، منطقة ركن الدين الممتدة حتى حي المهاجرين.
وفي حين أن مختلف مناطق برزة شهدت تظاهراتٍ منذ بداية الثورة السورية، لكن الحراك الثوري في الحي تركز في منطقة برزة البلد، التي دفع أهلها بصورة أساسية ضريبة كبيرة لذلك. وشهدت المنطقة حملات دهم واعتقالات، نفذتها قوات النظام عامي 2011 و2012. ولاحقاً شن النظام هجماتٍ عسكرية بالمدفعية والطيران، أدت لسقوط عشرات القتلى، فضلاً عن الدمار الواسع الذي خلفته، فيما بدأ النظام سنة 2013 بفرض حصارٍ خانق على برزة البلد التي خرجت عن سيطرته، بهدف إرضاخ ساكنيها الذين احتضنوا مقاتلي المعارضة.
واصلت قوات النظام خلال الحصار قصف المناطق السكنية في برزة البلد، مع تضييق الحصار الكامل عليها، وصولاً لنهاية سنة 2013، التي بدأ في شهر ديسمبر/ كانون الأول منها، تفاوضٌ بين النظام والمعارضة في برزة برعاية لجنةٍ محلية من وجهاء الحي. وأفضت مع بداية سنة 2014 لتوقيع هدنةٍ تعهّد خلالها النظام بأن يفك الحصار خلالها، ويطلق سراح معتقلين من الحي، مع إيقاف عمليات القصف والهجمات البرية، فيما التزم مقاتلو الفصائل بعدم شن هجماتٍ على قوات النظام، وبتبريد جبهات القتال معه، على أن يبقى الحي تحت سيطرتهم، مع تشكيل حواجز مشتركة عند نقاط التماس.
قبل هدنة برزة الموقّعة يوم السادس من يناير/ كانون الثاني سنة 2014، كانت معضمية الشام، جنوب غربي دمشق، قد وقعت أول اتفاقية مع النظام من هذا النوع في عموم سورية. وقد سوّق إعلام النظام لهذه الهدن حينها (وتحديداً هدنة برزة)، عبر وسائل إعلامه، فيما بدا كأنه يوجه رسائل إلى مناطق كثيرة خرجت عن سيطرته بمحيط دمشق، لتحتذي بالاتفاق الذي تم التوصل إليه في برزة، وتنعم بفك الحصار، ووقف القصف والغارات الدامية عليها.
في تلك السنة كان النظام يواجه جبهاتٍ كثيرة مع المعارضة بمحيط دمشق، خصوصاً في داريا والتل وقدسيا والقلمون الغربي (وادي بردى ومحيطه) والزبداني ومضايا، والقلمون الشرقي، ومعظم بلدات غوطتي دمشق الشرقية والغربية، فضلاً عن خروج معظم الأحياء الجنوبية للعاصمة عن سيطرته، إضافة لأحياء برزة والقابون، شمال شرقي دمشق، فبدأ بتكتيك الهدن المحلية، التي تخدمه بتبريد جبهاتٍ كثيرة، ليركز قواته في الجبهات التي يعتبرها أكثر أهمية. ويمكن القول إن سنة 2014 كانت سنة الهدن في طوق دمشق، إذ تم إبرام هدن في مناطق القدم، وعسالي، وبيت سحم، وببيلا، والقابون، وحي تشرين، وذلك بعد أن تم التوصل لاتفاق هدنة برزة بداية السنة.
ومنذ بدء التدخل العسكري الروسي في سورية، يوم 30 سبتمبر/ أيلول 2015، ومع استشعار النظام لفائض القوة التي منحت قواته بعد أشهر من الغارات الروسية تقدماً في جبهات عدة، بدأ يتنصل شيئاً فشيئاً من هذه الاتفاقيات التي وقعها أساساً مع كل بلدة وحي على انفراد، تماشياً مع ظروف وأهمية كل منطقة. فبدأ بشن عملياتٍ عسكرية للضغط على المعارضة في المناطق التي دخلت الهدن، وانطلق معها ما تسميه المعارضة السورية قطار اتفاقيات التهجير، والذي طاول خلال سنة 2016 وبداية سنة 2017 أغلب مناطق سيطرة المعارضة السورية بمحيط دمشق، بداية من داريا ومعضمية الشام، مروراً بالتل وقدسيا والهامة وخان الشيح، ثم وادي بردى والزبداني وبقين، وصولاً إلى أحياء دمشق الشمالية الشرقية (برزة والقابون)، ومعظم هذه المناطق المذكورة كانت وقعت كل منها على انفراد هدناً مع النظام.