يحصل ذلك في بلد، صحيح أنه صاحب أكبر احتياطي نفطي في العالم، لكن الحياة فيه تشبه ما هو سائد في أفقر دول العالم، في ظل ندرة المواد الغذائية والسلع والأدوية، لأسباب عديدة منها العقوبات الاقتصادية والفساد وسياسة يعرّفها مادورو بأنها "اشتراكية" عجزت عن تأمين حياة "طبيعية" لشعب مؤلف من أكثر من 31 مليوناً. وفي ظل هذا الانقسام العمودي غير المسبوق، والذي صار دموياً، يقف مادورو مجرداً من الحلفاء، باستثناء الجيش ربما، والنواة الصلبة من الكتلة التشافيزية، والتي خرج من صفوفها كثيرون يندّدون بانقلاب مادورو على تشافيز نفسه، إذ يقول كثيرون إن الرجل لم يغيّر الدستور مرة لحساباته، ولا تجاوزه، ولا اخترع أجساماً غير دستورية لضرب المؤسسات الدستورية، مثلما يفعل اليوم في انتخابات الجمعية التأسيسية للتخلص من البرلمان.
في ظل أجواء يخشى أن تفلت من أي سيطرة، وتعهد المعارضة مواجهة انتخابات اليوم في الشارع، أجلت وزارة الخارجية الأميركية دبلوماسييها وعائلاتهم من كاراكاس، وهو إجراء غالباً ما يكون مبنياً على معلومات وتقديرات استخبارية دقيقة بالنسبة لواشنطن. و"اليوم الانتخابي" سبقته إضرابات رافضة للمعارضة بدأت منذ يوم الخميس، وسقط فيها أكثر من سبعة قتلى. وكما أن لكل أمة تاريخاً فاصلاً فقد يكون 30 يوليو/ تموز 2017 تاريخاً فاصلاً في فنزويلا. لم يستمع مادورو لأحد حين رفض، عبر وسائل سياسية يتيحها الدستور، خصوصاً المحكمة العليا، إجراء استفتاء يمهّد لرحيله في أواخر عام 2016، لعجزه عن وضع حدّ للتدهور الاقتصادي في البلاد، مع أن فنزويلا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم. لم يستمع مادورو لصوت الشعب، بل اختار طريق المواجهة، وهو الذي يعلم أنه لولا قربه من الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، لما كان استمر في موقعه حالياً. وفي قرار المواجهة، فإن مادورو عمد إلى تعيين السوري الأصل، طارق العيسمي، نائباً له لتحصين نفسه في موقعه الرئاسي وفي أي إجراء قضائي مستقبلي. والعيسمي ليس سوى أحد المطلوبين في واشنطن، والتي أدرجته على "قائمة العقوبات الخاصة بالمخدرات، لقيامه بدور كبير في تسهيل تهريب المخدرات على المستوى الدولي".
تشدّد مادورو ورفضه الحوار مع المعارضة أديّا إلى انقلاب داخلي، قامت به المدّعية العامة في المحكمة العليا، لويزا أورتيغا. كان للسيدة الحديدية في فنزويلا موقف بشأن خطوات مادورو. في البدء رفضت إخضاع البرلمان لسلطة الرئيس الفنزويلي منذ أشهر، بغية "حماية الديمقراطية"، ثم انفصلت عن النظام، مؤيّدة مواقف المعارضة في رفض الجمعية التأسيسية. باشر مادورو ورجاله حملة ضد أورتيغا، ومنهم النائب بيدرو كارينو، والذي اعتبر أن "أورتيغا كذبت حين قالت إنها لم توافق على تعيين 33 قاضياً في عام 2015". وهو ما دفع النظام إلى مساءلتها قانونياً مطلع الشهر الحالي. والتخلص من البرلمان الحالي هو هدف مادورو من انتخابات اليوم، على اعتبار أن مجلس النواب المنتخب في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2015 وقع تحت سيطرة المعارضة، ما حدّ من أي قدرة للتحرّك بالنسبة إلى الرئيس الفنزويلي، فضلاً عن أن للبرلمان قدرة على إخضاع مادورو للمحاسبة بحسب الدستور. والبرلمان هو من يقود المواجهة السياسية فعلياً ضد مادورو، وهو الجبهة السياسية الوحيدة التي اخترقت بنيان النظام الفنزويلي في سنوات ما بعد رحيل تشافيز (2013). بالتالي، فإن ما يسعى إليه الرئيس اليوم، عبر تشكيل جمعية تأسيسية، هو إلغاء دور البرلمان فعلياً، وإحكام السيطرة على المفاصل السياسية في البلاد. وبحسب مخططه، فإن أعضاء الجمعية التأسيسية سيحلّون محل نواب البرلمان المنتخبين اعتباراً من 2 أغسطس/ آب المقبل. ومن المفترض أن يبلغ عدد أعضاء الجمعية 545 شخصاً، سيمثل 364 عضواً منهم الدوائر البلدية، و173 سيُعيّنون من مجموعات اجتماعية (العمال والمتقاعدين والطلاب والفلاحين ورؤساء المؤسسات وغيرهم)، إضافة إلى ثمانية من السكان الأصليين.
مع العلم أن 70 في المائة من الفنزويليين يرفضون إنشاء الجمعية التأسيسية، و80 في المائة يرفضون سلطة مادورو، بحسب معهد "داتا أناليسيس" للاستطلاع. حتى إن المعارضة أجرت استفتاءً رمزياً في 16 يوليو/ تموز، بتأييد من الكنيسة الكاثوليكية، رفضت فيه انتخابات اليوم. وبحسب مادورو، فإن الانتخابات، والتي ترسّخ صياغة الدستور، تعتبر حلاً لتسوية الأزمة، في حين ترى فيها المعارضة وسيلة للرئيس للتمسك بالسلطة، وتفادي الانتخابات الرئاسية، المقررة نهاية السنة المقبلة. والأسوأ أن الحكومة تؤكد أن الجمعية التأسيسية، والتي لم تحدد مدة ولايتها، ستحظى بـ"سلطات مطلقة" تسمح لها بحل البرلمان وبإرساء السلام والسماح بنهوض البلاد اقتصادياً. بالتالي فإن البلاد فعلياً على شفير هاوية سياسية وأمنية واقتصادية. ومن بين الأمور التي يتوجّب على مادورو التنبه إليها، هو فشله في الحفاظ على أي صديق له في واشنطن. فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، شدّد على أن "واشنطن لن تبقى مكتوفة الأيدي في حين تنهار فنزويلا. وإذا فرض نظام مادورو جمعيته التأسيسية فإن الولايات المتحدة ستتبنّى إجراءات اقتصادية شديدة وسريعة". لم تقف الأمور هنا، فالديمقراطية الأميركية نانسي بيلوسي، والجمهوري ماركو روبيو، لم يتّفقا قط على شيء في الولايات المتحدة، لكنهما اجتمعا ضد "ديكتاتورية مادورو". مع العلم أن الليبيراليين من الفريق الديمقراطي، كانوا يتعاطفون في وقت سابق مع مادورو، غير أنهم باتوا اليوم مقتنعين بفشله في قيادة البلاد اقتصادياً، ويعتبرون أنه لن يتمكن من حل الأزمة فيها. حتى إن السيناتور الديمقراطي، غريغوري ميكس، الوحيد من أعضاء الكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ، الذي حضر جنازة تشافيز عام 2013، قارن بين الأخير ومادورو قائلاً "عرفتهما معاً. ففي كل مرة كنت ألتقي فيها تشافيز، كان يستعين بالدستور الفنزويلي لشرح كل ما يفعله. حالياً، إن ما يفعله مادورو هو تمزيق الدستور".
خسر مادورو حلفاء عدة له في الفترة الأخيرة. لا الفاتيكان معه ولا كوبا قادرة على دعمه. وفي المحيط الأميركي الجنوبي، لم يجد من يدعمه، لا في البرازيل ولا في الأرجنتين، ولا حتى في كولومبيا والبيرو والإكوادور. وحده الرئيس البوليفي، إيفو موراليس، أبدى مخاوفه من "نية الولايات المتحدة غزو إحدى الدول في الفترة المقبلة"، مرجّحاً فنزويلا. واعتبر أن "فرض عقوبات على مسؤولين فنزويليين تسبق التدخل العسكري"، في إشارة إلى إعلان مسؤولين أميركيين "دراسة فرض عقوبات على فنزويلا، إضافة إلى فرض عقوبات على شخصيات، أبرزها وزير الدفاع، فلاديمير بادرينو لوبيز، والعضو المؤثر في الحزب الاشتراكي، ديوسدادو كابيلو". كابيلو عمل رئيساً مؤقتاً ورئيساً للبرلمان، واسمه مدرج على قائمة المتهمين بتجارة المخدرات. يكفي هذا للدلالة على المأزق الذي يتخبّط فيه مادورو، خصوصاً أن الممتنعين عن التصويت، في المبدأ، هم أكثر بكثير من المقترعين المحتملين، ما يُفقد الجمعية التأسيسية كل شرعية شعبية.