بعد أن كرست سيطرتها شبه الكاملة ميدانياً على معظم محافظة إدلب، إبان حملتها العسكرية على "حركة أحرار الشام" الشهر الماضي، واصلت "هيئة تحرير الشام"، التي يُشكل عناصر وقيادات "جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، عمادها الأساسي، المضي قُدماً في محاولاتها لإخضاع كافة الفعاليات المدنية والمجالس المحلية في إدلب لنفوذها، إذ تسعى إلى إعادة تشكيل بنية هذه الفعاليات المدنية، بما يضمن ولاءها لـ"الهيئة". وفي الوقت الذي تزدحم فيه المبادرات الساعية لإنقاذ المحافظة من مصير مشؤوم، تصاعدت المخاوف، خلال الأسابيع الماضية، منه.
وفي آخر تحركات "الهيئة"، الطامحة لبسط سلطتها بحكم الأمر الواقع في إدلب، فقد سيطر عناصرها على مديرية المياه منذ 3 أيام، وسط تحدث نشطاء محليين عن أن ذلك تبعه تجميد "الهيئة" لنشاطات موظفي "مجلس مدينة إدلب"، الذي أكد بدوره أنه بات بحكم "غير الموجود إلا شكلياً"، بعد أن سحبت "هيئة تحرير الشام" منه كافة الصلاحيات المتعلقة بإدارة ملفات المياه وخدمات البلدية والأفران وغير ذلك. هذه التطورات، دعت عدة مجالس مدنية في محافظة إدلب، مثل "المجلس المحلي في جرجناز" و"المجلس المحلي لمدينة سراقب"، إلى إصدار بيانات تؤكد فيها أنها ستواصل أعمالها الخدمية والإدارية، رافضة أن تكون لها أي ارتباطات فصائلية. وكان "مجلس محافظة إدلب" أصدر بياناً، طالب فيه "كافة الفصائل العسكرية بعدم التدخل بالحياة المدنية وبالمجالس المحلية، وبمجلس محافظة إدلب والمنظمات المدنية، حفاظاً على المصلحة العامة لمحافظة إدلب والشمال السوري"، مشيراً إلى أنه "غير معني بأي إدارة مدنية أو مجالس محلية لم تُشكل وفق تصميم مجلس المحافظة ومديرية المجالس".
وقال مصدرٌ في "مجلس محافظة إدلب"، طلب عدم ذكر اسمه، إنه تم إصدار البيان للتأكيد على أن "هذا المجلس هو المخول بإدارة الشؤون الخدمية والمدنية في إدلب. وقد تصاعدت أخيراً تحركات هيئة تحرير الشام لسحب الصلاحيات منه، كون الهيئة تسعى لتشكيل إدارة مدنية على مزاجها، وهو ما ترفضه معظم الفعاليات المدنية والمجالس المحلية في إدلب، وعبر بعضها عن ذلك في بيانات أظهرت دعمها لعمل مجلس محافظة إدلب ورفضها لفرض الأمر الواقع الذي تحاول الهيئة تطبيقه". وأضاف المصدر، لـ"العربي الجديد"، أن "سلوك الهيئة أخيراً لفرض إرادتها على الفعاليات المدنية والمجالس المحلية في إدلب، سيضع مصير المحافظة على طريق المجهول، وهو ما نحاول تجنبه. وندرك تماماً مخاطر أن تكون لنا أي شراكة سياسية مع الهيئة، فيما تحاول الهيئة الالتفاف على كل الجهود والمبادرات التي تُطرح من أجل تكريس سيطرتها على المحافظة، ولو بشكل غير مباشر".
وازدحمت في الأيام الماضية مبادرات لتجنيب إدلب مصيراً مشؤوماً، بعد أن قوضت "هيئة تحرير الشام" نفوذ "حركة أحرار الشام"، وقبل ذلك هَشَّمتْ حملات "النصرة" العسكرية المتتالية نفوذ "الجيش السوري الحر" في المحافظة الحدودية مع تركيا، والتي كانت منذ سنوات أبرز معاقل المعارضة السورية. آخر هذه المبادرات، كانت انطلقت قبل نحو أسبوع على مدرج جامعة إدلب، تحت عنوان "مبادرة الإدارة المدنية في المناطق المحررة"، وشاركت فيها عشرات الشخصيات الأكاديمية وفعاليات محلية أخرى، لبحث تشكيل "إدارة مدنية" ومؤسسات خدمية وقضائية وشرطية مستقلة. لكن الآراء انقسمت حيال هذه المبادرة، بين من اعتبرها ضرورية لإيجاد مخرج يجنب محافظة إدلب مصيراً مشؤوماً في ما لو كتب لها النجاح، وبين من رأى أنها قد تخدم تطلعات "هيئة تحرير الشام" التي تبحث عن واجهة مدنية تعمل وفق مزاجها.
في هذا السياق، قال رئيس "مجلس مدينة إدلب" إسماعيل عنداني، إنه "لم توجه لنا دعوة لحضور هذه المبادرة، وكانت لنا مبادرة طرحناها منذ فترة لتنظيم شؤون الإدارات الخدمية والمدنية في إدلب، لكن لم يتم التعاطي معها إيجاباً"، معرباً عن آسفه للتطورات التي استجدت في محافظة إدلب، والتي كان بينها "تعليق عمل مجلس مدينة إدلب، بسبب سحب صلاحياته بإدارة عدة شؤون خدمية ومدنية" من قبل "الهيئة" في الأيام القليلة الماضية. وأضاف عنداني، خلال حديث لـ"العربي الجديد"، أن "مجلس مدينة إدلب لا يعارض أي مبادرة لتأسيس إدارة مدنية لمحافظة إدلب تقوم بتسيير شؤون المدنيين والاحتياجات الخدمية، ولن يتخلى عن واجباته ومسؤولياته، خصوصاً أنه أهم مجلس في المحافظة من حيث التمثيل وطريقة التشكيل والاستقلالية، لكن هذه المبادرات يجب أن تكون مدروسة جيداً، وتراعي مختلف ظروف هذه المرحلة الحساسة". من جهته، قال القاضي محمد نور حميدي، وهو واحد من الشخصيات المشاركة في "مبادرة الإدارة المدنية في المناطق المحررة"، إن المبادرة لا تخضع لأي توجه إقليمي أو دولي، كون القائمين عليها سوريين يقيمون داخل الأراضي السورية، معتبراً خلال تصريحات صحافية، أن المبادرة خطوة في الاتجاه الصحيح لتفعيل دور الكفاءات في الإدارة المدنية لمحافظة إدلب. وكان عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني أقاموا ورشة عمل في قاعة اجتماعات "وحدة تنسيق الدعم" في مدينة غازي عنتاب التركية قبل أسبوعين، لتبادل الأفكار حول الوضع الحالي في محافظة إدلب. واتفق المشاركون على ضرورة "التأكيد على حماية المدنيين وتجنيبهم القصف من قبل النظام والروس والتحالف بأي شكل من الأشكال، وتمكين المؤسسات المدنية، خصوصاً الخدمية منها، والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، والتأكيد على تأمين الحماية للعمل الإنساني وللعاملين في هذا المجال".