قصة مطاردة السفينة "كارين إيه" من الخليج للبحر الأحمر

30 سبتمبر 2017
وصل وزن الحمولة إلى 54 طناً(صالح زكي فضل أوغلو/الأناضول)
+ الخط -

أربعة أشهر متواصلة من التنصت والتجسس على شبكات الاتصالات المختلفة في الوطن العربي، وبين شبكات الاتصال الفلسطينية والإيرانية، وتلك التابعة لحركة "فتح" و"حزب الله"، كانت كفيلة، وبفعل زلة لسان من مسؤول لبناني، بالكشف عن أكبر خطة فلسطينية إيرانية لتهريب الأسلحة والصواريخ من إيران إلى قطاع غزة، عبر البحر الأحمر، لفتح جبهة ثانية ضد إسرائيل تخفف من الضغط العسكري الإسرائيلي على الضفة الفلسطينية في الانتفاضة الثانية.

وكشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، في ملحقها أمس الجمعة، أنه على مدار الأشهر الأربعة، التي امتدت من مايو/أيار إلى أغسطس/آب 2001، كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كمن يضرب في الظلام، فهي تملك معلومات وتقديرات عن عملية تهريب واسعة للأسلحة آتية من إيران إلى قطاع غزة، لكن وسائل التهريب التي سيتم اعتمادها، ومسار عملية التهريب ظل مجهولاً، حتى بعد اعتراض سفينة الصيادين "سنتوريني" بينما كانت في طريقها من لبنان إلى غزة محملة بعتاد عسكري.

وقد مكنت حادثة "سنتوريني" الاحتلال من التيقن بوجود شبكة اتصالات واسعة إيرانية لبنانية فلسطينية، يدخل ضمن أقطابها أحد المستشارين المقربين من الرئيس الراحل، ياسر عرفات، فؤاد الشوبكي، ونائب قائد خفر السواحل الفلسطيني في حينه، الكولونيل فتحي عازم، وضابط عمليات حركة "فتح"، عادل المغربي. وبحسب الصحيفة فقد ظلت الاستخبارات الإسرائيلية المختلفة، ومعها استخبارات سلاح البحرية، تجمع المعلومات وتسجل الاتصالات والمكالمات المختلفة، محاولة فك شيفرة هذه الاتصالات من دون جدوى، فقد ظل أصحاب الاتصالات حريصين في محادثاتهم، وهم يتحدثون عن شراء بيت وسيارات، من دون أن يفهم الإسرائيليون شيئاً، إلى أن قال أحد المتصلين من الجانب اللبناني، وبشكل عفوي، لمتحدث فلسطيني على الطرف الآخر إنه تم شراء السفينة وتجهيز القوارب المرافقة. ومنذ أن تم فك شيفرة الاتصالات في 15 أغسطس، والتقاط المحادثة من قبل مجندة في استخبارات البحرية، تغيرت صورة الاستعدادات الإسرائيلية كلياً، بعد أن ظهر أن العملية المقبلة ستكون عملية تهريب كبيرة تأتي عبر البحر، لينطلق البحث بعدها عن السفينة التي تم شراؤها. واضطرت إسرائيل إلى التعاون مع الولايات المتحدة، وكشف كل المعلومات المتوفرة لديها، مقابل الحصول عن معلومات حول نوع وهوية السفينة التي يدور الحديث عنها، عبر مقارنة ومراجعة كافة الصفقات التي تمت في ذلك الوقت، ومتابعة حركة بيع السفن والقوارب، إلى أن تم الوصول إلى بيع السفينة "كارين إيه"، ليختفي طرف المعلومات مجدداً مع تغيير اسم السفينة بعد شرائها من قبل طرف مجهول.


وقد استغرقت عملية البحث عن السفينة مدة شهرين كاملين، حتى الخامس من ديسمبر/كانون الأول من العام 2001، وبدء عملية مطاردة السفينة، حتى عندما خيل بداية أنها ستكون محملة بالأسلحة من أحد موانئ الإمارات، ثم اتضح أنها كانت ترسو في جزيرة كيش الإيرانية، حيث تم تحميلها بالسلاح. وفي تلك الفترة كانت الاستخبارات الإسرائيلية رصدت ما ظنت أنه نشاط إيراني لصنع "غواصات صغيرة" لـ"حزب الله"، لكن تبين لاحقاً أن الحديث كان عن طوافات مائية صنعت لإخفاء الأسلحة داخلها، وإخفاء هذه الطوافات أو الحاويات الطافية أسفل السفينة، وهو ما انكشف نهائياً بعد اقتحام السفينة والبحث عن الأسلحة، وفشل عمليات التفتيش الأولية في العثور على الحمولة، التي قالت إسرائيل إنها وصلت إلى 54 طناً من الأسلحة المختلفة، ومن أهمها الصواريخ، التي كان هدفها نقل المواجهة إلى غزة، لتخفيف الضغط العسكري عن الضفة الغربية وفتح جبهة جديدة مع إسرائيل.

وقد عززت هذه المعلومات التقديرات الإسرائيلية بشأن اقتراب عملية تهريب واسعة للأسلحة، وتم استنفار كافة أجهزة الاستخبارات، من استخبارات سلاح البحرية وحتى الاستخبارات العسكرية والموساد و"الوحدة 8200"، بحثاً عن كل معلومة صغيرة أو اتصال يتعلق بالعملية، مع تفعيل بروتوكول التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية. وأطلق الاحتلال على العملية اسم "سفينة نوح"، وعلى السفينة "كارين إيه" اسم "المغنية"، حتى قبل بدء تعقب تحركها وانطلاقها من المرفأ الإيراني في طريقها إلى البحر الأحمر. وكانت إسرائيل بحاجة إلى عيون ترصد ما يحدث في المنطقة الممتدة بين الخليج العربي والمحيط الهادئ، وصولاً إلى سواحل اليمن، فاستعانت بالأقمار الاصطناعية الأميركية، ليس قبل ممارسة ضغوط هائلة، كون الولايات المتحدة كانت في أوج عملية مطاردة زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، بعد عملية 11 سبتمبر/أيلول، وتوجيه كل الأقمار الاصطناعية لهذا الغرض.

وتمكنت إسرائيل بفضل المعلومات التي مدتها بها الولايات المتحدة من الوصول إلى السفينة، التي كانت مجهولة حتى تلك اللحظة، ومن الحصول أيضاً من حوض السفن الإسباني، الذي صنعها، على نسخة عن المخطط الداخلي للسفينة، لتنطلق عملية مطاردة السفينة بعد أن باتت معروفة الاسم والشكل، ولتبدأ أيضاً، بموازاة تعقب السفينة، الاستعدادات لوضع خطة عملياتية للسيطرة عليها واعتراضها، في عرض البحر الأحمر، قبل أن تصل إلى المتوسط ويضيع أثرها. وتم وضع خطة تقوم على تدخل ومشاركة أسلحة الجو والبحر والاستخبارات البحرية والعسكرية، لمتابعة تقدم السفينة في البحر، ومراقبتها منذ رصد وصولها إلى الخليج العربي في ديسمبر/ كانون الأول 2001، بعد أن كانت رست لبعض الوقت في أحد موانئ السودان، وحتى بعد أن اختفت آثارها لمدة أربعة أيام داخل أحد مرافئ اليمن بينما كانت آتية من إيران محملة بالسلاح. وبعد أربعة أيام من اختفاء السفينة، تمكنت الاستخبارات العسكرية البحرية للولايات المتحدة من تحديد موقع السفينة في ميناء الحديدة في اليمن، ونقل المعلومات مباشرة إلى إسرائيل. وفي 17 ديسمبر، تلقت إسرائيل بلاغاً رسمياً أن مراقبة ومتابعة السفينة "كارين إيه"، هي على سلم أولويات الأسطول الأميركي والاستخبارات العسكرية للبحرية الأميركية. وسمح تزويد الاحتلال بالمخطط الداخلي لهيكل السفينة للكوماندوس الإسرائيلي بمعرفة داخل السفينة، لدرجة تحديد جهة فتح كل باب من الأبواب الداخلية فيها، وتحديد موقع مخازن السفينة، لكن من دون أي معلومة عن الحاويات الطوافة التي كانت صنعت في إيران وركبت أسفل السفينة وبها الأسلحة المختلفة.

وبعد تدريبات استمرت ثلاثة أسابيع، ووضع خطة اقتحام السفينة، حددت ساعة الصفر، في 3 يناير/كانون الثاني 2002 للسيطرة على السفينة في عرض البحر الأحمر، ومن ثم تم اقتيادها إلى إسرائيل وعرض حمولتها، وإظهاره كدليل على خطط الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، لفتح جبهة ثانية ضد إسرائيل في قطاع غزة. ولعبت قضية السفينة "كارين إيه" دوراً محورياً في تدعيم الدعاية الإسرائيلية، وانقلاب الإدارة الأميركية وحكومات غربية ضد عرفات، وذريعة للسكوت الدولي الغربي على الاجتياح الإسرائيلي البري للضفة الغربية في عدوان "السور الواقي" في إبريل/نيسان من نفس العام من قبل آرييل شارون ومحاصرة عرفات في المقاطعة حتى خروجه في رحلته الأخيرة إلى المستشفى العسكري في فرنسا للعلاج، وهي الرحلة التي لم يعد منها إلا محمولاً على الأكتاف إلى مثواه الأخير في رام الله.