جدل منمّق ومكثّف بين أهل الاختصاص وأصحاب القرار، معزّز بالقرائن والأرقام والمعادلات، ومتجلّ وراء غشاء من النفاق السياسي الذي يتقنه من يدركون في قراراتهم أنهم دوما في منأى عن مطبّات العولمة ومخاطرها أنّى كانت وجهة الرياح التي تعصف بها.
"نحو مستقبل مشترك في عالم ممزق" هو العنوان الذي اختاره المنتدى لاجتماعه السنوي هذا العام، والذي يختتم يوم الجمعة، وسط تحذيرات الخبراء من أن العالم سيشهد ارتفاعا في منسوب الأخطار الناجمة عن ازدياد النزاعات التي يولّدها احتدام التنافس الجيوستراتيجي بين الدول الكبرى والقوى الإقليمية، خصوصاً في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الكورية، مع تفاقم المواجهات السياسية والاقتصادية، إضافة إلى المخاطر البيـئية والهجمات السيبرانية على مرافق حيوية، وفشل الجهود الدولية لمواجهة تداعيات تغيّر المناخ.
ولا يستبعد خبراء المنتدى، الذي يضّم ألفاً من كبريات الشركات العالمية، وقوع أزمة مالية جديدة بسبب من ارتفاع أسعار الأصول ومستوى الدين العالمي، وعدم قدرة الأنظمة السياسية على التدخّل الفاعل والتأثير في المجريات الاقتصادية والمالية التي بات القرار السياسي، وأحيانا السيادي، رهينة لها أو خاضعا لمشيئتها.
ويركّز منتدى هذا العام في واحد من محاوره الرئيسية على "الثورة الصناعية الرابعة" التي تقوم على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مشددا على ضرورة إدارتها والاستفادة منها للحد من الفجوة الإنمائية بين الدول، والتخفيف من الفوارق في داخلها وليس العكس.
الشرق الأوسط وأزماته ليس غائبا عن منتدى هذا العام، حيث تنعقد ندوات يشارك فيها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ورئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما تخصص ندوة لمناقشة التحولات الأخيرة في السعودية يشارك فيها عدد من الوزراء السعوديين يتقدمهم وزير الخارجية عادل الجبير.
لكن الاهتمام السياسي الرئيسي في منتدى هذا العام سدور حول الأوضاع في أوروبا، التي يشارك 40 من رؤساء دولها وحكوماتها في المناقشات التي تركز على إيطاليا المقبلة على انتخابات عامة مطلع آذار/مارس، ليس مستبعدا أن تفوز فيها الأحزاب الداعية إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإسبانيا التي تواجه أزمة دستورية معقدة ذات أبعاد أوروبية مباشرة بسبب من المطالب الانفصالية في إقليم كتالونيا، وبولندا التي تجنح حكومتها نحو سياسات يمينية تقمع الحريات العامة وتقوّض استقلالية القضاء في مواجهة مفتوحة مع بروكسل، وبريطانيا التي ما زالت شروط طلاقها مع الاتحاد الأوروبي موضع تجاذب شديد بعد مرور عام على استفتاء "بريكست".
في العام الماضي، انعقد المنتدى الاقتصادي العالمي تحت وطأة صدمتين كبيرتين خارج التوقعات المحسوبة ومناقضتين للمفاهيم والمرامي التي قام عليها المنتدى: قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. كانت تلك المداولات أشبه بعرض لمسرحية هاملت من غير ظهور الأمير: ترامب على كل شفة ولسان فيما هو يستعد لتولي منصبه على وقع تعهداته الشهيرة بالانسحاب من اتفاق باريس حول تغيّر المناخ، وبناء جدار على الحدود مع المكسيك، وتجديد العقوبات على إيران ونقض معاهدات التجارة الحرة مع الشركاء الأساسيين، في تضارب تام مع الركائز والمبادئ التي قام عليها المنتدى منذ أربعين عاما.
لكن دافوس، الوفيّة لتناقضاتها، قررت أن تستضيف هذا العام الرئيس الذي يجسّد، في شخصيته وسلوكه وسياساته، كل ما دأبت على محاربته في العقود الأربعة الأخيرة.
يوم الجمعة المقبل، يلقي ترامب المحاضرة الختامية أمام المنتدى، محاطا بعدد غير مسبوق من أعضاء حكومته وكبار المسؤولين والمستشارين، عارفا أنه سيكون النجم بلا منازع مهما جنح أو استفز وتهجّم في طروحاته ومواقفه وتصريحاته. وتتضارب الآراء حول "الدرر" التي يمكن أن يخرجها الرئيس الأميركي من جعبته هذه المرة، فيرجح كثيرون أنه سيكرر تعهداته المعروفة مشفوعة بالتهديدات المألوفة، فيما يميل البعض إلى الاعتقاد بأنه قد يفاجئ المنتدى بتراجع عن المواقف المتشددة من اتفاقية تغيـّر المناخ والمعاهدات التجارية، خصوصاً أن ما دفعه إلى حسم أمره بالمجيء إلى دافوس قبل عشرة أيام فقط من موعد المنتدى، هو أن نجم العام الماضي كان الزعيم الصيني شي جين بينغ، الذي اغتنم المناسبة ليعلن من القلعة الليبرالية التزام بلاده سياسات الانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة، غامزا من قناة ترامب بقوله إن "الساعي إلى الإجراءات الحمائية في عالم اليوم كالناظر إلى نفسه في غرفة مظلمة".
وبينما تنتظر دافوس هبوط الرئيس الأميركي على ردائها الأبيض الكثيف مترقبة مفاجآته وعثراته، بدأت تشهد المدن السويسرية منذ نهاية الأسبوع مسيرات لمواطنين أميركيين يدعون إلى "مقاومة جهود إدارة ترامب التي تقوّض دعائم السلم وحقوق الإنسان والعدالة البيئية"، معربين عن "شعورهم بالخجل والإحراج" وعن "رغبة عارمة في الاعتذار من الأجانب لتصرفات ترامب وسياساته".