ولم يستقل ولد عباس من منصبه في الحزب فقط، إذ إنّ الرجل الذي لم يصمت عن الكلام والتحركات السياسية منذ توليه منصبه في أكتوبر/تشرين الأوّل 2016، استقال أيضاً عن التصريح في الشأن السياسي بالكامل. فأكثر من وسيلة إعلام بينها "العربي الجديد"، اتصلت بولد عباس لاستقصاء خلفيات قرار الاستقالة، ولكن يبدو أنّ الرجل ما زال يعيش تحت صدمة تنحيته، وقال "لن أتحدث في السياسة وأنا مهتمّ الآن بصحتي فقط، هذه أولويتي الآن. سأركن للراحة خلال الفترة المقبلة"، من دون أن يتيح الفرصة لسؤاله عن خلفيات وظروف تنحيه.
ومثل ولد عباس، نفى وزير الصحة السابق وعضو المكتب السياسي للحزب، عبد المالك بوضياف، في تصريح للصحافيين، علمه بأي تفاصيل تخصّ التطورات المتعلّقة بإقالة أو استقالة الأمين العام للحزب الحاكم، وقال "لا أدري، وليس لدي أي تفاصيل يمكنني أن أفيدكم بها بهذا الشأن"، مضيفاً "أنا مثلكم لا أعرف شيئاً وبحاجة إلى معلومات". كما لم يجد المتحدث الرسمي باسم الحزب، فؤاد سبوتة، ما يردّ به على أسئلة الصحافيين، فيما قال لـ"العربي الجديد" إنّه لم يتقرّر أي اجتماع في الوقت الحالي للمكتب السياسي للحزب، بعد تسلّم رئيس البرلمان، معاذ بوشارب، مقاليد الأمانة العامة للحزب مؤقتاً، في انتظار عقد اجتماع اللجنة المركزية للحزب، التي لم تعقد اجتماعاً لها منذ أكتوبر 2016، حيث كان الأمين العام السابق جمال ولد عباس يتلافى عقدها تجنباً لمحاولات الإطاحة به من قبل معارضيه داخل اللجنة المركزية.
وإذا كانت قيادات الحزب الحاكم تبدي دهشتها من القرار السياسي المفاجئ، وتعلن عدم علمها بالاستقالة، فإنّ ذلك يعني أنّ قرار تنحي ولد عباس من منصبه - وبغض النظر عما إذا كان صادقاً في تبرير ذلك بوضعه الصحي، بعدما كان قد أكّد في تصريحات سابقة أنه سيظلّ في منصبه حتى ما بعد 2024- قد اتخذ من خارج الإطار القيادي للحزب الحاكم. وفي هذه الحالة، تكون الرئاسة التي تتحكّم في مفاصل الحزب وقراراته، هي الجهة التي أصدرت قرار إجراء تغيير في أعلى هرم قيادة الحزب، في سياق ترتيبات سياسية تتعلّق بالمرحلة المقبلة التي تبدو حساسة بسبب الانتخابات الرئاسية المقبلة وحاجتها إلى شخصية أكثر كاريزماتية.
وفي السياق، قال المحلّل السياسي، أحسن خلاص، إنّ "الحزب الحاكم كان دائماً رهن القرار السياسي للسلطة، ولم تكن خياراته نابعة من صلب هياكله النضالية"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "طبيعة السلطة عندنا متميّزة بالتعتيم الإعلامي، فالوزراء مثلاً يسمعون تعيينهم وإقالتهم من التلفزة، ثمّ إنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ وضع منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني هشّ للغاية، فهو ليس من صنع المناضلين ولا يتشكّل بطريقة ديمقراطية تراعي الإجراءات الشكلية التي ينصّ عليها القانون الأساسي للحزب، وبالتالي فإنّ تغييره ليس عملية معقدة، وقد تحدث في أي وقت بدون أن تثير أزمة أو ردود أفعال".
وعبّر خلاص عن اعتقاده بأنّ "المبررات الصحيّة المعلنة قد لا تكون ذات صدقية كخلفية لاستقالة ولد عباس"، مشيراً إلى أسباب ودوافع سياسية أخرى. وقال "لا أعتقد أن العامل الصحي هو العامل الأساسي، وإلا فإنّ ذلك يفترض أن ينطبق أيضاً على رئيس الحزب، الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الدرجة الأولى"، مضيفاً "لكن يبدو لي أنّ الاستقالة تتصل بسوء العلاقة بين ولد عباس ووزير العدل الطيب لوح، الذي صار منذ عام 2013 هو المشرف الفعلي باسم الرئيس بوتفليقة على الحزب، بصفته ممثل النواة الرئاسية ومركزها في قرارات عدّة مهمة، وقد امتدّ هذا التأثير إلى جهاز الأمن والدرك وإلى الأذرع الإعلامية الداعمة لبوتفليقة ولمشروع الولاية الخامسة".
لكنّ الكثير من المراقبين لا يفصلون مجمل التطورات السياسية الأخيرة في الجزائر، بما فيها التغييرات الشاملة في الجيش والأمن إلى رئاسة البرلمان وأخيراً في قيادة الحزب الحاكم، عن ترتيبات تنفذها ما يعرف بمجموعة الرئاسة، استعداداً للمرحلة المقبلة، والتي قد تصل إلى حدّ إبعاد رئيس الحكومة أحمد أويحيى من منصبه في الأيام المقبلة. إذ يمثّل الأخير أبرز العقبات السياسية في وجه مجموعة الرئاسة، بحسب ما يشير إليه الصراع وحرب التصريحات بين أويحيى ولوح، الذي يعدّ أبرز وجوه مجموعة الرئاسة.
وفي هذا الإطار، اعتبر خلاص أنّ "هناك تكتّلاً مهمّاً يتشكّل ويستعدّ لأخذ زمام الأمر في حال انسحاب بوتفليقة أو وفاته. ويبدو أن أحمد أويحيى يشكّل عقبة أمام هذا التكتل، وهو يعدّ الهدف حالياً"، لافتاً إلى أنّ تحرّكات ولد عباس ومواقفه وتصريحاته التي كانت تذهب باتجاه دعم موقف أويحيى وموقعه، أو على الأقلّ لا يريد الانخراط في استهداف رئيس الحكومة، لا يتناسب مع أجندة كتلة الرئاسة التي لم تعد ترى في ولد عباس الحصان الذي يعوّل عليه في المعركة المقبلة، خصوصاً في حال فرضت الظروف انسحاب بوتفليقة لصالح خليفة مفترض".
واللافت أنّ إقالة ولد عباس تأتي بعد يومين من اتفاق على هدنة وتهدئة سياسية بين أحزاب الموالاة، وقبل أربعة أيام من عقد أوّل اجتماع كان مقرّراً لقيادات أحزاب التحالف الرئاسي، "جبهة التحرير" و"التجمع الوطني الديمقراطي" و"الحركة الشعبية" و"تجمّع أمل الجزائر"، المقرّر في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وفي هذا الإطار، عبّر الكاتب والناشط السياسي البارز، محمد أرزقي فراد، عن اعتقاده بأنّ "تنحية الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، لها علاقة بالصراع على مرحلة ما بعد بوتفليقة، لكون الرجل يملك النفس والحجة للدفاع عن بوتفليقة وليس عن غيره"، مضيفاً "أعتقد أنه دفع ثمن عدم اصطفافه وراء وزير العدل الطيب لوح في صراعه مع رئيس الحكومة أحمد أويحيى الذي زادت تحركاته الأخيرة في الداخل والخارج، من قلق خصومه في الرئاسة". وأشار فردا إلى أنّ "تضارب التصريحات والمواقف بين أجنحة السلطة دليل على انفراط عقد المشهد السياسي، وهو ما يعني بوضوح أنّ انتخابات 2019 لم يحسم أمرها بعد". تنجلي الأيام القليلة المقبلة عن تفاصيل جديدة في المشهد السياسي في الجزائر، في ظلّ حديث عن أنّ سلسلة التغييرات السياسية ستطاول الحكومة ورأسها، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في شهر أبريل/نيسان المقبل.