وبدأت تظهر علامات ضعفه الجسدي في منتصف يوليو/تموز 2015، عندما نُقل إلى المستشفى بعد إصابته بكسر في عظم رقبته إثر سقوطه في منزله بولاية ماين، لتثير مظاهر عجزه مشاعر الرثاء بين الأميركيين للوضع الذي وصل إليه رجل اعتلى، يوماً، أعلى قمم القوة والسطوة. وبتأثير من مرض الشلل الرعاش أصبح ما تبقى من جسده يهتز، مثلما كانت أجساد كبار موظفي البيت الأبيض ترتعش عند سماع أصحابها لخطوات أقدامه قبل ثلاثين عاماً. قبل أن يُنقل أمس الأربعاء إلى مستشفى في هيوستن.
جورج بوش الأب، كان قد احتفل بعيد ميلاده التسعين، العام 2014، بالقفز بمظلة لإظهار مدى تمتعه بالصحة، لكنه مع اقتراب حملات 2016 الانتخابية، بدأت تتكرر أسباب نقله إلى المستشفى، تارة لضيق في التنفس، وتارة أخرى لسقوط أو كسر أو جرح، وفي كل مرة يزداد القلق على حياته كونه الأكبر سناً بين أربعة من الرؤساء الأميركيين السابقين الأحياء، وهم إضافة إليه، جيمي كارتر وبيل كلينتون وجورج بوش الابن.
ولم يستطع جورج بوش الأب رؤية مشهد تنصيب نجله الثاني جيب بوش رئيساً ثالثاً من العائلة للولايات المتحدة، بعدما فشل الأخير في التقدّم حتى للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أسفرت عن فوز دونالد ترامب بالرئاسة. وكان الرئيس السابق بيل كلينتون، زوج المرشحة الديمقراطية التي خسرت في الانتخابات هيلاري كلينتون، انتزع من جورج بوش الأب البيت الأبيض، حارماً إياه من فترة رئاسية ثانية، لم يكن يتوقع أنه سيخسرها بمثل تلك البساطة.
التنافس الذي بدأ بين آل بوش وآل كلينتون في عام 1992، انتهت أولى جولاته بهزيمة ساحقة لجورج بوش الأب بعد وقت قصير من تحقيقه لأميركا نصراً على الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، في حرب الخليج الأولى. وكان بوش الأب يتوقع أن يكافئه الأميركيون على تحرير الكويت، لكن بيل كلينتون كان أكثر قدرة على دغدغة مشاعر الأميركيين من خلال جيوبهم التي يهمها ازدهار الاقتصاد الداخلي أكثر من الاهتمام بالانتصارات الخارجية.
وقد حاول الجمهوريون بعد ذلك انتزاع الرئاسة من بيل كلينتون عندما ترشح لفترة رئاسية ثانية، إلا أن ازدهار الاقتصاد الأميركي في عهده حرمهم من التفوّق عليه. وحاولوا بعد ذلك إخراجه من البيت الأبيض بعد فوزه بفترة رئاسية ثانية، فتمكنوا من توجيه ضربات قاسية له هزت رئاسته على وقع التحقيق فيما سُمي بفضيحة مونيكا لوينسكي، ولكن دهاء كلينتون جعله في نهاية المطاف ينقذ منصبه بتقديم الاعتذار للشعب الأميركي، فانتزع من الجمهوريين صاعق التفجير وحرمهم بذلك الاعتذار من أصوات عدد كبير من الديمقراطيين في الكونغرس، كان أصحابها موافقين على عزل كلينتون من الرئاسة لو لم يعتذر. ومرة أخرى كان للوضع الاقتصادي المتحسّن في عهده دور فاعل في إنقاذه من سقوط محتم.
أما جورج بوش الأب ومع أنه كان قد درس الاقتصاد في جامعة ييل وتخرّج منها عام 1948، إلا أن انتماءه إلى عائلة ثرية جعله بعيداً عن أي إحساس حقيقي ممّا يعانيه عامة الأميركيين، وبعيداً جداً عن إتقان الخطاب الذي امتاز به كلينتون أثناء مخاطبته لحاجات الأغلبية الساحقة من أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة.
وطوال حياة بوش الأب لم يحقق أي نجاح سياسي إلا ويسبقه الفشل أو يليه. تلقى علومه الأولية في مدرسة أميركية داخلية لأبناء الأثرياء وهي أكاديمية فيلبس في ولاية ماساشوستس التي وُلد فيها. وقبل إكماله المرحلة الثانوية تعرّف عام 1941 على باربرا بوش، التي أصبحت فيما بعد الأميركية الوحيدة التي حازت على لقب زوجة رئيس وأم رئيس في وقت واحد. وتم التعارف بين جورج الأب وباربرا في إحدى حفلات عيد الميلاد، ولم تكن حينها قد تجاوزت السادسة عشرة من عمرها في حين أن جورج قد وصل السابعة عشرة من عمره، وتزوجا في الشهر الأول من عام 1945. ورزق جورج بوش الأب وزوجته باربرا ستة أبناء وبنات، هم جورج وجيب وروبين ونيل ومارفين ودورثي، ولكن ابنتهما روبين توفيت عام 1953.
وقبل زواجه كان بوش الأب قد استُدعي للخدمة في سلاح البحرية الأميركية وأصبح أصغر طيار أميركي أثناء الحرب العالمية الثانية حين شارك في الحرب، ونجا من الموت بأعجوبة عام 1944 عندما سقطت طائرته في البحر بعد أن قفز منها بالمظلة هابطاً في مياه المحيط الهادي وأنقذته غواصة أميركية كانت قريبة من المكان الذي هبط فيه. وبعد الحرب التحق بوش الأب بجامعة ييل وتخرّج منها بدرجة في الاقتصاد عام 1948، وانتقل بعد ذلك إلى ميدلاند في ولاية تكساس، حيث حقق نجاحاً كبيراً في قطاع النفط في الولاية الغنية به. في عام 1963 أصبح بوش قيادياً في الحزب الجمهوري في مقاطعة هاريس في ولاية تكساس، وفي العام التالي رشح نفسه لمجلس الشيوخ ولكنه فشل، فعاد بعد سنتين ورشح نفسه لعضوية مجلس النواب ونجح في البقاء عضواً في مجلس النواب حتى عام 1971 عندما رأس الحزب الجمهوري أثناء فضيحة ووترغيت.
وبعد ذلك تم تعيينه سفيراً للولايات المتحدة لدى الصين، ثم عاد عام 1976 ليرأس وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي آي". وعندما عُيّن جورج بوش الأب مديراً لوكالة الاستخبارات، أصبح تركيزه على الرئاسة الأميركية مثلما تركزت الأنظار عليه لترشحه لمنصب الرئاسة، لكنه فشل في تمثيل حزبه في التصفيات الأولية لانتخابات 1980 حين فاز بالترشيح رونالد ريغان الذي اختاره نائباً له، وفاز ريغان بالرئاسة على الرئيس الديمقراطي حينها جيمي كارتر. وظل بوش الأب نائباً للرئيس طوال فترتي ريغان حتى عام 1988.
وفي الفترة من 1989 حتى بداية العام 1993 كان بوش الرجل الأول في الولايات المتحدة بعد أن فاز بمنصب الرئاسة لفترة رئاسية واحدة وخسر الفترة الثانية لصالح بيل كلينتون. وفي فترة بوش الرئاسية الوحيدة نشبت أزمة الخليج الأولى ثم حرب الخليج التي خاضها بوش ضد صدام حسين وأخرج قواته من الكويت. ولكن على الرغم من أن بوش الأب كان أقل فطنة على المستوى الداخلي من خلفه كلينتون، إلا أن التجارب اللاحقة أثبتت أنه كان أكثر حنكة من نجله الرئيس جورج بوش الابن، إذ إنه عقب تحرير الكويت رفض إصدار أوامره للجيش الأميركي بالتقدّم نحو بغداد لإسقاط صدام حسين تفادياً منه للإخلال بالتوازن الطائفي في المنطقة العربية ومنعاً لسقوط الدولة العراقية قبل وجود نظام بديل جاهز لتولي المسؤولية.
وفي عهده كان الرجل القوي في البيت الأبيض، هو كبير الموظفين من أصل عربي جون سنونو، الذي عانت إدارة بوش من فضائح فساده الإداري والمالي وسفرياته الخاصة بالطائرة الرئاسية، ولكن لم يجرؤ أحد في البيت الأبيض أن يطلب منه الاستقالة بسبب صلته القوية ببوش الأب، إلى أن جاء جورج بوش الابن لزيارة أبيه الذي كان يُعدّ نجله الآخر جيب بوش للرئاسة. ولكن عندما سمع جورج الابن بالهمس حول جون سنونو ذهب إليه في مكتبه، وقال له بشكل صريح إن عليه أن يستقيل قبل أن يُقال، فما كان من سنونو إلا أن استمع النصيحة التي أذهلت قادة الحزب الجمهوري من جرأة صاحبها، ويبدو أنهم من حينها قرروا تحويل خطتهم بإعداده لمنصب الرئاسة بدلاً من إعداد شقيقه جيب، تحت مبرر أنه الأكثر جرأة على تحقيق رغبات قادة الحزب.