ندر أن وجد رئيس جمهورية في فرنسا نفسه أمام أزمة بقاء وخطر اضطرار إلى تقديم الاستقالة بعد عام ونصف العام فقط من وصوله إلى منصبه، مثلما يحصل اليوم مع الرئيس إيمانويل ماكرون، بعد شهر واحد من انطلاق احتجاجات غضب غير مسبوقة ضد سياساته الاقتصادية الاجتماعية اليمينية التي تستثني فعلياً الأثرياء، والذين يعتبر ماكرون، بحسب الرأي السائد فرنسياً، رئيساً لهم وللمصرفيين ورجال الأعمال. وتأكد أمس السبت أن كل يوم يمر يزيد من مأزق ماكرون وحكومته ورئيسها اليميني إدوار فيليب. فلا إرجاء تطبيق الضرائب الهائلة المستجدة على الوقود وعلى أسعار الكهرباء، ولا إلغاؤها لعام 2019، ولا الوعد المبدئي بدراسة إعادة فرض الضريبة الملغاة عن عقارات الأثرياء، ساهمت في تقليل حدة الغضب في رابع أيام تظاهرات "السترات الصفراء" التي تمددت أكثر أمس في نسختها الرابعة، رغم أن عنف المتظاهرين انخفض نسبياً مقارنة مع السبت الماضي، لكن عنف رجال الأمن ازدادت وتيرته، وترجمت باعتقالات استباقية منذ الصباح الباكر، وربما ساهم ذلك في اشتداد حدّة المواجهات لاحقاً في عدد كبير من شوارع عاصمة الأنوار التي أغلقت بشكل شبه كامل، فضلاً عن تمدد التظاهرات وأعمال العنف إلى عدد كبير من المدن الفرنسية. وفي انتظار خطاب منتظر لماكرون غداً أو بعد غد، ارتفعت شروط المتظاهرين إلى أربعين، ملخصها أن السلطة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تتراجع حكومة ماكرون عن كل الضرائب الجديدة التي تنوي فرضها، وتعيد فرض الضرائب على الأثرياء، أو ترحل، بدءاً من رئيسها ورئيس الجمهورية، وهو ما جعل الشعار المركزي المنتشر على القمصان الصفراء هو "ماكرون استقالة".
وقد استفاق الباريسيون أمس على صلاحيات استثنائية معطاة لثمانية آلاف شرطي (من أصل 89 ألف لكل المدن الفرنسية) للتعامل بكل الأدوات لمنع مظاهر العنف التي تكررت على مدى 3 أيام سبت منذ الشهر الماضي. وبالفعل، سجّل اليوم الرابع للغضب اختلافات عديدة عن أيام السبت الثلاثة السابقة، حين كانت التجمعات متركزة في الغرب الباريسي حول ساحة الإيتوال (النجمة) الملاصقة لجادة الشانزليزيه والقصر الرئاسي، بينما أمس توزعت التجمعات الغاضبة، السلمية والعنفية منها، في عدد كبير من شوارع باريس، ما دفع بالشرطة إلى محاولة إقفال عشرات الشوارع ووقف الحركة في 40 محطة مترو وعشرات خطوط الباصات العامة، وسط إقفال شبه كامل للمطاعم والمتاحف والمحال التجارية وأماكن التسوق في معظم أنحاء عاصمة التسوق والسياحة، وكأنه يوم أحد (عطلة رسمية في فرنسا)، بينما أيام السبت تشكل عادة ذروة الحركة التجارية. كذلك أعلنت المستشفيات حالة الاستنفار القصوى لاستقبال مئات الجرحى. كذلك استدعى الوضع استنفار السلطات لمناشدة الإعلام الفرنسي للتقليل من التغطية الإعلامية لما يحصل، بحجة عدم زيادة الأمور سوءاً، بطلب من المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع، وهو ما انعكس بالفعل تغطية متواضعة للبث المباشر في عدد من القنوات التلفزيونية الفرنسية.
اقــرأ أيضاً
وبرزت شعارات "ماكرون استقالة"، و"ماكرون يحتقر الناس البسطاء"، في الاحتجاجات، وأحصت وزارة الداخلية، في الساعة الواحدة من بعد ظهر أمس، 31 ألف متظاهر، من بينهم 8 آلاف في العاصمة، أي أقل من عدد الأسبوع الماضي. وقد أدت الاعتقالات الاستباقية، التي بدأت مساء أول من أمس وصباح أمس في محطات القطارات والمداخل إلى أماكن التظاهر، إلى إيقاف أكثر من 700 شخص في عموم فرنسا، أكثر من 600 منهم في العاصمة وحدها، قبل بدء التجمعات حتى. وعلى الرغم من وصول المتظاهرين إلى الشانزليزيه في الساعة السادسة صباحاً، إلا أن الوضع ظلّ نسبياً تحت السيطرة الأمنية، مقارنة بالسبت الماضي، رغم بعض المجابَهات التي استخدمت فيها الشرطة خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، ولم يعكره سوى إقدام بعض المتظاهرين على إشعال النار في القمامة وفي بعض أغصان الشجر، وهو ما تصدت له على الفور خراطيم المياه. لكن سجل يوم أمس مستوى عنف من رجال الأمن أعلى من الأسبوع الماضي، مع انتشار ظاهرة إطلاق الشرطة الرصاص المطاطي مباشرة على أجساد المتظاهرين، وهو ما ترجم بعدد كبير من المصابين والمعتقلين. وحاولت حشود المتظاهرين الزحف نحو القصر الرئاسي. وسدت مركبات مدرعة زرقاء اللون أسفل قوس النصر، ومنعت صفوف من رجال شرطة مكافحة الشغب، الذين يرتدون خوذات حماية، دخول المتظاهرين إلى شارع الشانزليزيه باتجاه قصر الرئاسة. وأحاطت حلقة فولاذية قصر الإليزيه نفسه، بينما تمركزت شاحنات الشرطة ووضعت الحواجز الحديدية في الشوارع بكافة أنحاء الحي.
وحذرت حكومة إدوار فيليب من أن احتجاجات السترات الصفراء خلقت "وحشاً"، وأن الحركة سوف يتم اختطافها من قبل حشود "متشددة ومتمردة" من اليمين المتطرف واليسار المتطرف. وقال وزير الداخلية كريستوف كاستانير أمس "أطلب من أصحاب السترات الصفراء الذين يرغبون في إيصال رسالة سلمية عدم التجاوب مع الأشخاص العنيفين. نحن نعلم أن العنيفين أقوياء فقط لأنهم يخفون أنفسهم وسط أصحاب السترات الصفراء، الذين يعيقون قوات الأمن". وقتل أربعة أشخاص منذ بدء الاضطرابات في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وألغيت أسواق أعياد الميلاد ومباريات كرة القدم المحلية وغيرها من الأحداث التي لا تعد ولا تحصى وتضررت بسبب الاحتجاجات. وبدت أجزاء من باريس وكأنها تستعد لإعصار، مع وجود لوحات على النوافذ تغطيها زخارف عيد الميلاد. وأزالت الشرطة أي شيء في الشوارع يمكن استخدامه كسلاح أبيض، لا سيما في مواقع البناء في المناطق شديدة الخطورة.
هذا ميدانياً. أما سياسياً، فتبدو الأمور أكثر تعقيداً. لم يسبق أن وصل الحقد الشعبي في فرنسا، ضد رئيس جمهورية، إلى ما وصل إليه في زمن ماكرون الذي كسر الأرقام القياسية في التعاطي مع مواطنيه كرئيس "متعجرف" وكمتحدث باسم الأغنياء مثلما يتهمه خصومه من اليمين واليسار، لتأتي قرارات فرض الضرائب وتشعل الغضب المتراكم عند ما بات يسمى "فرنسا العميقة"، خصوصاً سكان الأرياف والضواحي والفقراء الذين بدا أنه تم التقليل من حجمهم وعددهم ومستوى يأسهم. لكن اليوم، بات الرجل أمام وضع حرج، ذلك أن مطلب استقالته لم تعد مجرد ردة فعل غاضبة، بل شعار آخذ في التمدد من اليمين إلى اليسار، خصوصاً الراديكالي في التيارين، ممثلاً في "فرنسا غير الخاضعة" يساراً، والجبهة الوطنية (التجمع الوطني بحسب اسمه الجديد) يميناً. وكان ماكرون قد "سجن" نفسه في قصر الإليزيه منذ عودته من الأرجنتين في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، للتفكير في أفق لحل الأزمة، مثلما تنقل عنه صحيفة "ليبراسيون" اليسارية. حتى إنه ألغى سفراته إلى الخارج (صربيا) واجتماعاته المقررة في الإليزيه. وتنقل عنه صحيفة "لوموند" قوله لوزرائه يوم الثلاثاء الماضي: "أنا المستهدف" من الغضب الشعبي، وهو ما لا يُعرف إن كان معناه أن الرئيس الشاب فهم الرسالة الشعبية الرافضة لسلوكه المتعالي عليهم و"المتعجرف"، بحسب وصف شارع عريض جداً في فرنسا للرئيس الآتي من إدارة المصارف من خارج الأطر الحزبية، والذي انتخب بغالبية شعبية كبيرة في مايو/ أيار 2017، ليفاجئ مؤيديه قبل غيرهم، بسلوك متعالٍ وبسياسات وبمواقف عدائية لقطاعات إنتاجية (زراعة وصناعة) لمصلحة الأعمال والتجارة والمصارف وقطاعات الخدمات. بالتالي، فضل ماكرون عدم الحديث منذ عودته من الأرجنتين يوم السبت الماضي عن حركة الاحتجاج لتفادي "صب الزيت على النار"، مثلما نُقل عنه، بما أنه يُعتقد على نطاق واسع في فرنسا أن خطاب ماكرون الأول والأخير (حتى مساء أمس) عن تظاهرات الغضب الفرنسية، والذي ألقاه من بوينس آيرس على هامش قمة العشرين في 1 ديسمبر/ كانون الأول، قد أدى مفعولاً عكسياً تماماً، وفجر العنف الكبير في السبت الذي تلاه ثم أمس أيضاً، لذلك فضل الصمت وجعل رئيس وزرائه إدوار فيليب يتحدث ويعلن قرارات تجميد وإرجاء فرض ضرائب جديدة، بينما المطلوب كان إلغاءً كاملاً لها. وقد تسبب ذلك في دخول إدوار فيليب، الذي يعتبر بمثابة "ظل الرئيس"، في دائرة المطالَبين بالاستقالة بدوره.
اليوم، يقف ماكرون أمام 3 خيارات فعلياً: إمّا الاستقالة، علماً أن أياً من رؤساء الجمهورية الخامسة لم يستقيلوا تحت وطأة حركة احتجاج شعبية منذ الرئيس شارل ديغول نتيجة ثورة مايو/ أيار 1968، أو الرضوخ وتغيير سلوكه وطريقه تعاطيه مع الفرنسيين وفهم حدود التفويض الشعبي المعطى له بموجب انتخابه رئيساً، والأهم تغيير سياساته الاقتصادية بمنحى اجتماعي أكثر يراعي قطاعات عريضة من أصحاب الدخل المحدود الذين كشفوا كم أن "فرنسا العميقة" تمت إساءة تقدير حجمها. مع احتمال ثالث يخشى أن يسير فيه الرجل، أي أن يبقي على سياساته وعلى طريقة تعاطيه مع الفرنسيين، وزيادة اتكاله على قدرة قبضة الأمن على فرض الاستقرار واللعب على تقسيم المتظاهرين لإضعاف حراكهم.
تقول صحيفة "لوموند" الفرنسية في عددها أمس، إن ماكرون فهم أن "سلوكه وشخصيته أصبحا سبباً للأزمة"، وهذا ما ستظهر صحته أو خطأه غداً أو بعد غد، حين يلقي الرجل خطابه المتوقع للفرنسيين (بحسب ما كشفه رئيس الجمعية الوطنية، أي الغرفة الأهم للبرلمان، ريشار فيرّان)، ليُعرَف ما إذا كان الرئيس الشاب فهم الرسالة التي وجهها إليه الغاضبون، أم أنه لم يفهم شيئاً.
وقد استفاق الباريسيون أمس على صلاحيات استثنائية معطاة لثمانية آلاف شرطي (من أصل 89 ألف لكل المدن الفرنسية) للتعامل بكل الأدوات لمنع مظاهر العنف التي تكررت على مدى 3 أيام سبت منذ الشهر الماضي. وبالفعل، سجّل اليوم الرابع للغضب اختلافات عديدة عن أيام السبت الثلاثة السابقة، حين كانت التجمعات متركزة في الغرب الباريسي حول ساحة الإيتوال (النجمة) الملاصقة لجادة الشانزليزيه والقصر الرئاسي، بينما أمس توزعت التجمعات الغاضبة، السلمية والعنفية منها، في عدد كبير من شوارع باريس، ما دفع بالشرطة إلى محاولة إقفال عشرات الشوارع ووقف الحركة في 40 محطة مترو وعشرات خطوط الباصات العامة، وسط إقفال شبه كامل للمطاعم والمتاحف والمحال التجارية وأماكن التسوق في معظم أنحاء عاصمة التسوق والسياحة، وكأنه يوم أحد (عطلة رسمية في فرنسا)، بينما أيام السبت تشكل عادة ذروة الحركة التجارية. كذلك أعلنت المستشفيات حالة الاستنفار القصوى لاستقبال مئات الجرحى. كذلك استدعى الوضع استنفار السلطات لمناشدة الإعلام الفرنسي للتقليل من التغطية الإعلامية لما يحصل، بحجة عدم زيادة الأمور سوءاً، بطلب من المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع، وهو ما انعكس بالفعل تغطية متواضعة للبث المباشر في عدد من القنوات التلفزيونية الفرنسية.
وبرزت شعارات "ماكرون استقالة"، و"ماكرون يحتقر الناس البسطاء"، في الاحتجاجات، وأحصت وزارة الداخلية، في الساعة الواحدة من بعد ظهر أمس، 31 ألف متظاهر، من بينهم 8 آلاف في العاصمة، أي أقل من عدد الأسبوع الماضي. وقد أدت الاعتقالات الاستباقية، التي بدأت مساء أول من أمس وصباح أمس في محطات القطارات والمداخل إلى أماكن التظاهر، إلى إيقاف أكثر من 700 شخص في عموم فرنسا، أكثر من 600 منهم في العاصمة وحدها، قبل بدء التجمعات حتى. وعلى الرغم من وصول المتظاهرين إلى الشانزليزيه في الساعة السادسة صباحاً، إلا أن الوضع ظلّ نسبياً تحت السيطرة الأمنية، مقارنة بالسبت الماضي، رغم بعض المجابَهات التي استخدمت فيها الشرطة خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، ولم يعكره سوى إقدام بعض المتظاهرين على إشعال النار في القمامة وفي بعض أغصان الشجر، وهو ما تصدت له على الفور خراطيم المياه. لكن سجل يوم أمس مستوى عنف من رجال الأمن أعلى من الأسبوع الماضي، مع انتشار ظاهرة إطلاق الشرطة الرصاص المطاطي مباشرة على أجساد المتظاهرين، وهو ما ترجم بعدد كبير من المصابين والمعتقلين. وحاولت حشود المتظاهرين الزحف نحو القصر الرئاسي. وسدت مركبات مدرعة زرقاء اللون أسفل قوس النصر، ومنعت صفوف من رجال شرطة مكافحة الشغب، الذين يرتدون خوذات حماية، دخول المتظاهرين إلى شارع الشانزليزيه باتجاه قصر الرئاسة. وأحاطت حلقة فولاذية قصر الإليزيه نفسه، بينما تمركزت شاحنات الشرطة ووضعت الحواجز الحديدية في الشوارع بكافة أنحاء الحي.
وحذرت حكومة إدوار فيليب من أن احتجاجات السترات الصفراء خلقت "وحشاً"، وأن الحركة سوف يتم اختطافها من قبل حشود "متشددة ومتمردة" من اليمين المتطرف واليسار المتطرف. وقال وزير الداخلية كريستوف كاستانير أمس "أطلب من أصحاب السترات الصفراء الذين يرغبون في إيصال رسالة سلمية عدم التجاوب مع الأشخاص العنيفين. نحن نعلم أن العنيفين أقوياء فقط لأنهم يخفون أنفسهم وسط أصحاب السترات الصفراء، الذين يعيقون قوات الأمن". وقتل أربعة أشخاص منذ بدء الاضطرابات في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وألغيت أسواق أعياد الميلاد ومباريات كرة القدم المحلية وغيرها من الأحداث التي لا تعد ولا تحصى وتضررت بسبب الاحتجاجات. وبدت أجزاء من باريس وكأنها تستعد لإعصار، مع وجود لوحات على النوافذ تغطيها زخارف عيد الميلاد. وأزالت الشرطة أي شيء في الشوارع يمكن استخدامه كسلاح أبيض، لا سيما في مواقع البناء في المناطق شديدة الخطورة.
هذا ميدانياً. أما سياسياً، فتبدو الأمور أكثر تعقيداً. لم يسبق أن وصل الحقد الشعبي في فرنسا، ضد رئيس جمهورية، إلى ما وصل إليه في زمن ماكرون الذي كسر الأرقام القياسية في التعاطي مع مواطنيه كرئيس "متعجرف" وكمتحدث باسم الأغنياء مثلما يتهمه خصومه من اليمين واليسار، لتأتي قرارات فرض الضرائب وتشعل الغضب المتراكم عند ما بات يسمى "فرنسا العميقة"، خصوصاً سكان الأرياف والضواحي والفقراء الذين بدا أنه تم التقليل من حجمهم وعددهم ومستوى يأسهم. لكن اليوم، بات الرجل أمام وضع حرج، ذلك أن مطلب استقالته لم تعد مجرد ردة فعل غاضبة، بل شعار آخذ في التمدد من اليمين إلى اليسار، خصوصاً الراديكالي في التيارين، ممثلاً في "فرنسا غير الخاضعة" يساراً، والجبهة الوطنية (التجمع الوطني بحسب اسمه الجديد) يميناً. وكان ماكرون قد "سجن" نفسه في قصر الإليزيه منذ عودته من الأرجنتين في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، للتفكير في أفق لحل الأزمة، مثلما تنقل عنه صحيفة "ليبراسيون" اليسارية. حتى إنه ألغى سفراته إلى الخارج (صربيا) واجتماعاته المقررة في الإليزيه. وتنقل عنه صحيفة "لوموند" قوله لوزرائه يوم الثلاثاء الماضي: "أنا المستهدف" من الغضب الشعبي، وهو ما لا يُعرف إن كان معناه أن الرئيس الشاب فهم الرسالة الشعبية الرافضة لسلوكه المتعالي عليهم و"المتعجرف"، بحسب وصف شارع عريض جداً في فرنسا للرئيس الآتي من إدارة المصارف من خارج الأطر الحزبية، والذي انتخب بغالبية شعبية كبيرة في مايو/ أيار 2017، ليفاجئ مؤيديه قبل غيرهم، بسلوك متعالٍ وبسياسات وبمواقف عدائية لقطاعات إنتاجية (زراعة وصناعة) لمصلحة الأعمال والتجارة والمصارف وقطاعات الخدمات. بالتالي، فضل ماكرون عدم الحديث منذ عودته من الأرجنتين يوم السبت الماضي عن حركة الاحتجاج لتفادي "صب الزيت على النار"، مثلما نُقل عنه، بما أنه يُعتقد على نطاق واسع في فرنسا أن خطاب ماكرون الأول والأخير (حتى مساء أمس) عن تظاهرات الغضب الفرنسية، والذي ألقاه من بوينس آيرس على هامش قمة العشرين في 1 ديسمبر/ كانون الأول، قد أدى مفعولاً عكسياً تماماً، وفجر العنف الكبير في السبت الذي تلاه ثم أمس أيضاً، لذلك فضل الصمت وجعل رئيس وزرائه إدوار فيليب يتحدث ويعلن قرارات تجميد وإرجاء فرض ضرائب جديدة، بينما المطلوب كان إلغاءً كاملاً لها. وقد تسبب ذلك في دخول إدوار فيليب، الذي يعتبر بمثابة "ظل الرئيس"، في دائرة المطالَبين بالاستقالة بدوره.
اليوم، يقف ماكرون أمام 3 خيارات فعلياً: إمّا الاستقالة، علماً أن أياً من رؤساء الجمهورية الخامسة لم يستقيلوا تحت وطأة حركة احتجاج شعبية منذ الرئيس شارل ديغول نتيجة ثورة مايو/ أيار 1968، أو الرضوخ وتغيير سلوكه وطريقه تعاطيه مع الفرنسيين وفهم حدود التفويض الشعبي المعطى له بموجب انتخابه رئيساً، والأهم تغيير سياساته الاقتصادية بمنحى اجتماعي أكثر يراعي قطاعات عريضة من أصحاب الدخل المحدود الذين كشفوا كم أن "فرنسا العميقة" تمت إساءة تقدير حجمها. مع احتمال ثالث يخشى أن يسير فيه الرجل، أي أن يبقي على سياساته وعلى طريقة تعاطيه مع الفرنسيين، وزيادة اتكاله على قدرة قبضة الأمن على فرض الاستقرار واللعب على تقسيم المتظاهرين لإضعاف حراكهم.
تقول صحيفة "لوموند" الفرنسية في عددها أمس، إن ماكرون فهم أن "سلوكه وشخصيته أصبحا سبباً للأزمة"، وهذا ما ستظهر صحته أو خطأه غداً أو بعد غد، حين يلقي الرجل خطابه المتوقع للفرنسيين (بحسب ما كشفه رئيس الجمعية الوطنية، أي الغرفة الأهم للبرلمان، ريشار فيرّان)، ليُعرَف ما إذا كان الرئيس الشاب فهم الرسالة التي وجهها إليه الغاضبون، أم أنه لم يفهم شيئاً.