وفي مثل هذا اليوم اشتعلت من بنغازي شرارة الثورة لتنتقل إلى أكثر من مدينة ومنطقة بغرب وجنوب وشرق البلاد، واحتاجت تلك الاحتجاجات السلمية التي حولتها آلة حرب القذافي إلى ثورة مسلحة أطاحت بحكم القذافي خلال ثمانية أشهر بمساعدة دولية.
بيد أن المفارقة أن البلاد اليوم تعيش على وقع حروب واقتتال تسبب به ذلك السلاح الذي أزاح حكم الديكتاتور، كما أن المجتمع الدولي الذي قدم لليبيا العون يبدو أنه لم يكن يمتلك مشروعا بديلا واكتفى بموقف المتفرج عليها، محاولا تقديم المبادرات والمقاربات السياسية والأمنية لحلحلة مشكلتها المتزايدة.
أنجزت ليبيا في عام ثورتها الثاني 2012 أول انتخابات برلمانية المتمثلة في المؤتمر الوطني العام بنجاح، وتشكلت حكومة تنفيذية استطاعت مصارعة الواقع الناجم عن سنوات تصحر سياسي واستبداد بثروات البلاد، لكنها سريعا واجهت العراقيل بظهور حفتر الذي لا يزال يحاول الاستفادة من موروث زميله السابق معمر القذافي الذي شاركه في انقلاب 1969 لإعادة حكم العسكر والاستبداد بالحكم.
منتصف عام 2014 كان بداية شرارة تحول كبير في مسار ليبيا الثورة، فبعد أن فشل حفتر في تنفيذ انقلاب في طرابلس في فبراير من العام ذاته عبر ظهور تلفزيوني، تحول إلى شرق البلاد ليظهر بشكل مفاجئ في منطقة المرج شرق بنغازي، زاعما إطلاقه لحملة عسكرية لتخليص بنغازي من الفوضى الأمنية التي كانت تعانيها في ذلك الوقت، وسريعا ما استفاد من الدعم القبلي الواسع هناك، وليظهر فيما بعد كممثل لأنظمة عسكرية واستبدادية إقليمية ممثلة في محور القاهرة وأبوظبي تحاول من خلاله إرجاع البلاد إلى سنواتها الماضية.
وخلال انخراط البلاد في تجربتها الانتخابية الثانية منتصف ذلك العام استثمر حفتر الحدث، وسعى لاحتواء المنتخبين في مجلس النواب وضمهم إلى صفه ليكون واجهة سياسية لشرعنة انقلابه، وهو ما حدث بالفعل إذ لجأ أغلب النواب إلى عقد جلساتهم في طبرق أقصى شرق البلاد. وكان أول قرار لهم إعلان حفتر قائدا للجيش وشرعنة مليشياته تحت مسمى كتائب ووحدات الجيش، ولتدخل البلاد من تلك اللحظة في انقسام سياسي وأمني، تلاه اندلاع حروب مميتة لم تبق ولم تذر في طرابلس. وحاول أنصار حفتر من الزنتان السيطرة على مواقع حيوية في طرابلس، لكنهم خسروا حربهم مع قوات "فجر ليبيا"، لينتقل القتال غرب العاصمة، ولتعيش بنغازي ثلاث سنوات من فصول الاقتتال والدمار.
وأفسح انحسار الدولة وتمركز سلطة القوتين المتصارعتين في غرب وشرق البلاد المجال بشكل كبير لتجمهر عناصر إرهابية من تنظيم "داعش" وتجمعها في سرت وسط البلاد وتحويلها لعاصمة حكمهم، وفي الجنوب نشطت مليشيات التهريب بسبب الحدود المنفلتة وجذبت الأوضاع المتهاوية هناك مليشيات تمرد تشادية وسودانية سريعا، ودخلت هي الأخرى على خط الاقتتال والحروب.
بقي حفتر بعيدا عن المجال السياسي بشكل مباشر، لكنه كان يناور عن طريق واجهته السياسية المتمثلة في مجلس النواب الذي كان يمثله في جولات الحوار السياسي التي أطلقتها الأمم المتحدة نهاية عام 2014، والتي انتهت بتوقيع الاتفاق السياسي بمدينة الصخيرات المغربية نهاية العام التالي، ورغم الاتفاق دخلت البلاد في مرحلة أخرى من اللااتفاق، فقد تحولت مخرجاته المتمثلة في مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق إلى أطراف صراع جديدة.
ورغم الحشد الدولي الكبير لتأييد ودعم الاتفاق السياسي إلا أن مراوغة مجلس النواب أتاحت لحفتر بناء تحالفات قبلية وثيقة مكنته من السيطرة على أجزاء واسعة من الجنوب الليبي، كما مكنته من السيطرة على أهم رقع البلاد المتمثلة في وسطها وتحديدا الهلال النفطي المهم بالنسبة لدول عديدة، مما حسن شروط حفتر التفاوضية وجعله رقما مهما في أي تسوية قد تأتي للمشهد الليبي.
تغيرت استراتيجيات حروب حفتر في الأثناء، فإثر توسع سيطرته أدار ظهره لبعض القبائل، لكنه استعان بمقاتلين جدد تمثلوا هذه المرة في مسلحي التيار المدخلي الذي تدفعه أسباب دينية تعتبره ولي الأمر الشرعي الواجب نصرته. كما أنه حافظ على وجود عنصر الحرب لإلهاء الكتائب والعناصر المقاتلة في بنغازي التي أعلن منذ أشهر فقط سيطرته عليها، وفي الجفرة وسبها بالجنوب، وفي الهلال النفطي، وأخيرا أقصى الشرق وتحديدا حول درنة، لكن استراتيجيته السياسية الساعية للوصول إلى الحكم بقوة السلاح هي الثابت الوحيد الذي لم يتغير.
مناوئوه على الطرف المقابل ما انفكوا في عرقلة مساعيه العسكرية من خلال بناء قوة عسكرية تمركزت في سرت بعد طرد "داعش" منها، لتشكل عائقا أمام أي تفكير له في التقدم نحو الغرب، وأخرى غرب وجنوب العاصمة، بالإضافة للمساعي السياسية التي كشفت على طول خط الأزمة السياسية أن حفتر من خلال حلفائه السياسيين في مجلس النواب هم من يعرقل جهود التسويات السياسية عبر الاتفاق السياسي.
والعام الماضي 2017 تم تعيين غسان سلامة كمبعوث أممي جديد لدى ليبيا، الذي اكتشف مبكرا مكمن عرقلة العملية السياسية المتمثل في مراوغة مجلس النواب ومن ورائه حفتر وحلفاؤه الإقليميون، فبادر إلى الإعلان في سبتمبر/ أيلول الماضي عن خطة أممية تقضي بالذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية بديلا عن الاتفاق السياسي فيما يبدو، لإنهاء الانقسام السياسي والأمني.
ورغم مرور أشهر على الإعلان عن تلك الخطة وترحيب كل الليبيين بها، إلا أن حفتر لم تتبين مواقفه الغامضة حتى الآن، فرغم ترحيبه بخطة سلامة التي رأى فيها دعما لاعتقاده بأن الاتفاق السياسي انتهت مدته وبالتالي كل الأجسام المنبثقة عنه بنهاية هذا العام، وهو ما أعلنه رسميا في خطاب له يوم 23 ديسمبر الماضي، إلا أن مستجدات جديدة نتجت مؤخرا يبدو أنها توحي بأنه ما يزال يراوغ في سبيل عرقلة أي جهد يفضي إلى إنهاء الأزمة السياسية والأمنية دون أن يتفرد هو فيها بالسلطة.
المستجد الجديد تمثل في فراغ هيئة صياغة الدستور من أشغاله وإحالته مشروع الدستور إلى مجلس النواب لإصدار قانون للاستفتاء عليه من الشعب، وهو ما عارضه جليا وسعى لعرقلته حلفاء حفتر السياسيون في مجلس النواب، لينتهي الخلاف حول مشروع الدستور بحكم قضائي صادر عن المحكمة العليا يقضي بإنهاء الخلاف والنزاع حوله وقانونية إحالته لمجلس النواب.
ويبدو واضحا أن حفتر يرحب بالانتخابات المعلن عنها من قبل الأمم المتحدة لمرحلة انتقالية جديدة تتيح له المجال للمناورة والمراوغة لكسب وقت أكثر، لكن إجراء الانتخابات على أساس الدستور الدائم للبلاد يعني إنهاء الفترة الانتقالية والدخول في مرحلة الاستقرار وإفراز أجسام سياسية دستورية دائمة مما يقطع الطريق عليه بشكل نهائي، وسط حديث يشير إلى فقدانه حتى حق الترشح للمناصب السياسية المقبلة بسبب نصوص بالدستور تحدد صراحة الشروط اللازم توفرها في متقلدي المناصب، وأقلها ألا يكون المترشح عسكريا وألا تكون له جنسية أخرى.