كان من المتوقع حتى في أسوأ الحالات والفرضيات، أن تصدر عن الإدارة الأميركية كلمة واحدة أو إشارة، إن لم يكن دعوة صريحة لوقف المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، أمس الإثنين، على الخط الفاصل مع غزة، خاصة أن سقوط الضحايا كان يتزايد بالعشرات وعلى مدار الساعة.
وكان يتوقع صدور موقف أميركي ولو بالحد الأدنى على الأقل، حتى لا تواكب المجزرة السياسية (نقل السفارة) مجزرة دموية، يفترض أن من مصلحة واشنطن العمل على الحيلولة دون وقوعها.
لكن تبيّن، مرة أخرى أن لإدارة الرئيس دونالد ترامب حساباتها ومعاييرها المختلفة تماماً، فمثل هذه الاعتبارات لا مكان لها في مقاربتها للموضوع. مرّ الوقت وارتفع عدد الشهداء من عشرة إلى عشرين ثم ثلاثين وأربعين إلى أن وصل إلى 59، من دون أن يأتي مسؤول أميركي على سيرة النزيف الغزي.
وزارة الخارجية لاذت بالصمت القاطع، لم تعقد لقاءها الصحافي. صدر عنها بيان باسم الوزير مايك بومبيو للترحيب بنقل السفارة الأميركية والمشاركة ولو عن بُعد "بفرحة" هذا الحدث، مع التجاهل التام للمجزرة على تخوم غزة.
اعتقد المراقبون أن البيت الأبيض لا بد وأن يعرج على الموضوع، في لقائه الصحافي بعد ظهر الإثنين، لكن لا المتحدث الأميركي جاء على ذكر المجزرة ولا أجاب على الأسئلة الخمسة التي طرحت عليه في هذا الخصوص.
اكتفى المتحدث الأميركي بجواب واحد "حماس تتحمل المسؤولية ولإسرائيل حق الدفاع عن نفسها". لم يتزحزح عن هذه التعويذة في أجوبته الخمسة ومن دون أن يكلف نفسه عناء التلفظ بكلمة "نأسف" لما حصل، ناهيك عن توجيه نداء بوقف المجزرة. وفي حينه كان عدد الشهداء قد تجاوز الخمسين. حتى أن أحد المراسلين كاد يصرخ بوجه المتحدث مستغرباً رفض الإدارة توجيه دعوة لإسرائيل لضبط النفس، بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، لكن الرد كان بالمزيد من الصمت ورمي الكرة في ملعب "حماس".
ترافق ذلك مع تصريحات لرئيس الوفد الرسمي الأميركي للاحتفال، وزير المالية ستيفن منوشين الذي رأى أن نقل السفارة "كان في محله لأن من شأنه تعزيز الحماية لإسرائيل والولايات المتحدة والعالم". لم يكلف الوزير العتيد نفسه شرح وتبيان العلاقة التي تربط بين نقل السفارة ومثل هذه الحماية المزعومة. مما يدل على أن قرار السفارة جاء مثل غيره من القرارات الاعتباطية التي تتخذها إدارة ترامب من موقع "تغليب مصلحتها السياسية على المصلحة الأميركية العليا"، كما قال نائب رئيس مركز "وودرو ويلسون للدراسات والأبحاث في واشنطن"، آرون ميلر.
مع ذلك، وعلى الرغم من الوقائع العنيدة التي خلقها موضوع السفارة، بقيت الإدارة على زعمها بأن ما جرى في القدس "لا يؤثر على عملية السلام"، وأن من شأن "الاعتراف بالواقع أن يعزز من فرص السلام"، على ما يقول المستشار جون بولتون. لكن هذا الزعم لا يغير في حقيقة الأمر شيئاً، فالإدارة قضت على احتمالات صيغة الدولتين، بالتنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومفاتيحه في واشنطن وبموافقة ضمنية أو علنية من غالبية "الكونغرس" الأميركي، ناهيك عن القوى المؤثرة مثل اللوبي الإسرائيلي والملياردير شلدون أدلسون، وأمثاله من المحيطين بالرئيس ترامب.
وجاء احتفال، أمس الإثنين، بافتتاح مبنى السفارة الأميركية بالقدس المحتلة بمثابة نعي لحل الدولتين، أو هكذا أرادوه. والحديث عن السلام بعد الذي جرى ليس سوى للتغطية والاستهلاك.