وبحسب معدّ التقرير، فإنّ الجنرالات السابقين الذين حكموا غزة اعتبروا، خلافاً للوهم السائد في إسرائيل، أنه "لا يزال هناك مجال لتنظيم العلاقات بين إسرائيل وبين جارتها الصغيرة والمثيرة للمشاكل"، وهم في الوقت ذاته تنبّأوا بشكل دقيق تقريباً بالمجزرة التي نفذتها إسرائيل قبل أسبوعين على حدود قطاع غزة، كما سردوا قصص فرص أضاعتها إسرائيل لتنظيم العلاقة مع القطاع، ورأيهم في احتمالات تسوية كهذه في المستقبل في حال غيّرت إسرائيل سياستها.
أول المتحدثين في التقرير هو الحاكم العسكري للقطاع في مطلع السبعينيات، الجنرال احتياط اسحاق بونداك الذي توفي العام الماضي عن 104 سنوات، وبحسبه فإنه "عندما شغل منصب الحاكم العسكري لقطاع غزة وسيناء، ورأى بأم عينيه فقر وقلة حيلة لاجئي القطاع، أدرك أن تهدئة القطاع مرهونة قبل كل شيء بتحسين ظرف اللاجئين الاقتصادي وتوفير العمل لكل من يريد، وأن مكافحة الإرهاب فقط، كما أراد الجنرال أرييل شارون الذي كان قائد المنطقة الجنوبية في حينه، لن تحل المشكلة".
وبحسب رواية بونداك، فقد "تمكن بعد عامين من محاولة وقف سياسة البطش العسكرية لقائد المنطقة الجنوبية شارون، والاهتمام بالاحتياجات المدنية للسكان، من تحقيق الهدوء التام في غزة"، مدعياً في الوقت ذاته أن "السياسي الفلسطيني حيدر عبد الشافي، القائد البارز لمنظمة التحرير في القطاع آنذاك، طلب مني البقاء حاكماً لقطاع غزة لعامين إضافيين"، لافتاً إلى أنه، وبحسب روايته هو، "اقترح الراحل حيدر عبد الشافي حل الدولتين: إسرائيل والأردن، فتكون غزة خاضعة للأردن، وإلا إذا واصلت إسرائيل السيطرة على غزة سننتصر عليكم في الأسرّة، في إشارة إلى التكاثر السكاني، إذ كان عدد سكان القطاع يومها 400 ألف فلسطيني وأصبح اليوم مليونين".
وادّعى بونداك أن "إسرائيل رفضت الخيار الأردني، وذلك بفعل كارثة انتصارها في حرب يونيو/ حزيران 1967، إذ أصاب الجنرالات في الجيش شعور عظمة تجلّى في اقتناء الجنرال السباق حاييم بار – ليف، صاحب فكرة الستار الترابي المعروف باسم خط بارليف، حصاناً، وتجول جنرال آخر بصحبة كلبه، وقام جنرال ثالث، هو رحبعام زئيفي (اغتالته خلية للجبهة الشعبية عام 2004 في غرفة فندق في القدس المحتلة) بجلب أسود إلى القدس. الجنون والنشوة استوليا على عقولهم".
ولفت بونداك إلى أنه "على مدار أيام حرب 1973 لم تطلق رصاصة واحدة من غزة. وعلى العكس من ذلك تمّت محاولات ومشاريع لتوطين اللاجئين وتوفير أماكن عمل لهم في إسرائيل، إذ كان خط القطار بين تل أبيب وغزة ينقل يومياً 80 ألف عامل من غزة، عدا عن توفير 200 حافلة لنقل العمال إلى إسرائيل". وأضاف أنه "أضعنا الفرصة بشكل رهيب، وعندها جاء انسحاب شارون من غزة وإخراج اليهود منها بشكل أحادي، من دون أي اتفاق أو مفاوضات مع العرب وأوصد الباب كلياً أمام أي إمكانية للتسوية".
وفي هذه النقطة انتقل التقرير إلى محاولات رئيس الحكومة الإسرائيلي، ليفي أشكول، إفراغ غزة من سكانها في مطلع السبعينيات في الوقت الذي عمل فيه الحاكم العسكري آنذاك اسحاق عبادي بالتنسيق مع وزير الأمن موشيه ديان على توطين اللاجئين في غزة، فنجح في توطين 32 ألف لاجئ في مخيمي الشاطئ وجباليا. وبموافقة ديان عُرضت على الفلسطينيين في القطاع عام 1972 ثلاثة خيارات: الانتقال للعيش في منطقة جديدة في القطاع، أو الانتقال إلى الضفة الغربية، أو العودة إلى إسرائيل. وبحسب ادعاء عبادي فقد "وافقت 72 عائلة فقط على الانتقال للعيش في الضفة الغربية، بينما أصر الباقون على البقاء في قطاع غزة ولم يختر أحد الخيار الثالث".
وقد رفضت الحكومة في النهاية المشروع كله، بعد أن أعلن شارون أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست أن "من يريد إخراج اللاجئين من المخيمات يقوم بعمل حقير، وتم وقف المشروع كلياً". وبحسب ادعاء الجنرال عبادي فإنه "لو تواصل المشروع لعاش اللاجئون خارج المخيمات وعملوا في الزراعة ولصارت غزة من دون مخيمات، وقد سمع كل من تحدث عن ترحيلهم من القطاع جواباً واحداً: لقد تعلمنا أمراً واحداً هو أنه لن نذهب لأي مكان آخر".
وبحسب ادعاء عبادي، الذي تأسس في زمنه المجمع الإسلامي، فإنه "لو لم تتجاهل إسرائيل مصالح السكان لما نشأت حركة حماس، لأن الإخوان المسلمين بنوا تنظيمهم دائماً على ضائقة السكان وحيث لا توجد ضائقة لا يوجد إخوان مسلمون".
ورأى عبادي، بحسب التقرير، أنه "بالإمكان التوصّل إلى تسوية مع حماس"، مستشهداً بما ادّعى أن "القائد في حماس محمود الزهار قاله لرئيس الحكومة الأسبق إسحاق رابين: يمكننا أن نتوصل إلى ما توصلتم إليه مع مصر والأردن، إلى تسويات هي ليست صلحاً، ولكن سلام فقط". وعبادي مقتنع بأنه "كان يمكن التوصل إلى تسوية في غزة لو انتهجت إسرائيل مبدأ عِش ودَع الآخرين يعيشون حياتهم"، مضيفاً أن "الوضع مثل حبس قط أو أي حيوان آخر، عندما يجد أنه محاصر ولا مكان للذهاب إليه يهاجمك. ماذا تريد منهم أن يفعلوا؟ عندما لا يوجد ما يخسرونه فإنك تخسر المعركة".
وكشفت مقالات "هآرتس" في هذا التقرير أن "الحاكم العسكري لغزة في سنوات الثمانينيات اسحاق سيجف الذي كان آخر ملحق عسكري في السفارة الإسرائيلية في إيران، وشاهد بأم عينه الهجوم الشعبي على السفارة في طهران مع عودة الخميني، رفع للحكومة (برئاسة مناحيم بيغن آنذاك) خطة للانسحاب من قطاع غزة، واضطر إثر ذلك إلى الاستقالة من الجيش".
وكان سيجف قد توقّع في خطته سيناريوهات ومشاهد مسيرات العودة مع تدفق عشرات آلاف الفلسطينيين على السياج الحدودي، مشيراً للصحيفة إلى أن "إسرائيل تملك قوة عسكرية، وهي قادرة على إطلاق النار، لكن سيكون من الصعب إطلاق النار على الأطفال، بدلاً من التفكير فقط في الحلول التي يقترحها الليكود: قبضة حديدية وقبضة أشد ومزيد من القوة". ورأى أنه "لا يزال بالإمكان التوصّل إلى تسوية وأن ترتبط إسرائيل بالعالم العربي السني وتغيير مصير القطاع بمساعدة مصرية تمكن من مستوى معيشي يعين على البقاء، واليوم بات الوصول إلى تسوية أصعب من الماضي، لأن الشرق الأوسط يشتعل وبسبب الانقسام بين حماس ومحمود عباس، ولكن إذا وافقت الكتلة السنية، بقيادة السعودية ومصر والأردن، فهذا يكفي".
وبحسب سيجف "حتى لو جاءت 50 دولة فقط، ومن دون إيران، وضغطت على الفلسطينيين للتوصل إلى اتفاق يشمل أيضاً القضايا الجوهرية، أي جبل الهيكل (الحرم القدسي) والحدود وغزة، ستحصل إسرائيل فجأة على 50 دولة إضافية. أنا أعمل اليوم مع الصين والهند، انظر ماذا يحدث؟ فجأة ستفتح أمامنا ماليزيا وباكستان وإندونيسيا أيضاً، ستكون هنا جنة بدلاً من مستوطنة أخرى على الأرض".
أما الجنرال شلومو غازيت، الذي كان رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" ثم شغل لعشر سنوات تقريباً منصب منسق أعمال حكومة الاحتلال في العقد الأول بعد حرب 1967، فقد تنبأ هو الآخر بما سيحدث بعد أشهر من اللقاء به (المقابلات أجريت خلال العامين الأخيرين قبيل انطلاق مسيرات العودة) ووصف القطاع بأنه "جزيرة فقر خرجت إسرائيل منه للوهلة الأولى وظاهرياً، وأبقت عليه كمعسكر اعتقال ضخم فيه مليونا شخص يتدهور وضعهم باستمرار". وكشف أن "أكثر ما يخيفني هو أن يقوم غداً أو بعد شهر 50 ألف غزّي وهم يدوسون السياج الفاصل ويخترقون إسرائيل".
غازيت الذي وضع كتاباً عن سياسة الاحتلال، خلال فترة شغله منصب منسق أعمال حكومة الاحتلال في الضفة والقطاع، تحت عنوان "العصا والجزرة سياسة إسرائيل في الأراضي المدارة" وصدر قبيل الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1994) عام 1986، قال إنه برأيه "يمكن تبنّي نموذج التعامل القائم بين إسرائيل وحزب الله". وأوضح أنه "خرجنا من لبنان، صحيح أن ذلك تمّ من دون اتفاق لكننا توجّهنا بعد ذلك إلى الأمم المتحدة وقلنا لهم افحصوا خط الحدود وصادقوا على أننا خارج لبنان 100 في المائة، وبقي هناك عدو خلف الحدود هو حزب الله، ونحن نعيش مع هذا العدو منذ 17 عاماً وندير أمورنا بشكل ليس سيئاً. لم نفعل ذلك في غزة، في غزة أبقينا مجموعة كبيرة من السكان تعيش في ازدحام كبير تحت حصار بحري وبري وجوي، هذه كارثة، من دون ماء ومن دون كهرباء".
وكسابقيه لم يعتبر غازيت أن "حالة غزة قصة عديمة الحل"، بل رأى أن "على إسرائيل تغيير سياستها والتطلع إلى أن تصبح غزة دولة مستقلة، مع ميناء ومطار وطرق برية واتفاق دولي لإعادة إعمارها وترميم البنى التحتية، هكذا يمكن تحويلها إلى دولة عدو جارة يمكن العيش معها".
وخلص غازيت البالغ من العمر 92 عاماً، وحارب في كل معارك إسرائيل منذ عضويته في تنظيم "بلماح" العسكري السري قبل النكبة 1948، إلى أنه "لا مستقبل لإسرائيل بالبقاء من دون التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، حتى لو جلبت كل يهود العالم للعيش فيها". وأضاف "من يعتقد أنه ممكن أن نعيش وسط ملايين العرب المعادين لنا فلينس هذا الأمر، لا يمكن حمل التوراة وترديد أن ربي سيتغلب على ربهم، يجب التوصل إلى حل، أنا لا أتحدث عن سلام ولكن عن حل، وتقليص الاحتكاك قدر الإمكان، فإذا لم نستيقظ من الطريق التي نسير فيها فأخشى أن دولة إسرائيل لن تبقى".