في العادة، ومنذ الزمن السوفياتي، تنعقد القمم بين واشنطن وموسكو بعد تحضيرات طويلة، يشارك فيها عموم فريق الرئيس الأميركي للأمن القومي، وعلى قاعدة تحالف قوي مع الأوروبيين، وبجدول أعمال بنوده واضحة ووازنة، مثل خفض السلاح أو تخفيف التوتر أو نزع فتيل أزمات كبيرة.
وغالباً ما كانت تنتهي القمم الروسية الأميركية بتفاهمات، أو باتفاقيات تساهم في تعزيز الأمن والسلام الدوليين، غير أن الإعداد لقمة الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في 16 يوليو/ تموز المقبل، جاء في إطار مختلف، ربما لأن أغراضها مختلفة.
قرر البيت الأبيض القمة لوحده، وفي لحظة خلاف حاد مع أوروبا، وبجدول أعمال غامض، وقام بترتيبها على عجل، مغتنماً فرصة وجود ترامب في أوروبا للمشاركة في قمة حلف "شمال الأطلسي".
هذا الترتيب ترك أسئلة كثيرة، خاصة لجهة توقيته الذي يعقب اجتماعات حلف "الأطلسي" في بروكسل، والتي اغتنم الرئيس الأميركي فرصة مشاركته فيها ليعرج بعدها على هلسنكي للقاء بوتين، لا سيما وأنه من المتوقع أن يصطدم ترامب مع دول "الناتو" بشأن "قصورهم" في الإنفاق العسكري، كما اصطدم معهم في قمة السبع الأخيرة في كندا حول الرسوم الجمركية على صادرات الحديد والألمنيوم.
ومثل هذا الصدام لو حصل سيكون بمثابة هدية يحملها ترامب إلى سيد الكرملين، الذي يعمل على زعزعة حلف شمال الأطلسي وفرطه إذا أمكن.
وتبرز الخشية لدى أطراف أميركية عديدة أن ترامب لا يبدو عازماً على مفاتحة بوتين بنقاط الخلاف الكبيرة، وعلى رأسها قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ومطالبته بعدم تكرار هذه المحاولة.
وفي تغريدته التي أتت قبل نصف ساعة من الإعلان الرسمي عن موعد القمة، برأ ترامب، وإن بصورة ضمنية، موسكو من تهمة التدخل في الانتخابات الأميركية، التي حرص حتى اللحظة على عدم توجيهها ضد موسكو، علماً أن القيادات الاستخباراتية الأميركية جميعها، ومن بينها الوزير مايك بومبيو، قبل انتقاله إلى وزارة الخارجية، أكدت حصول هذا التدخل، لكن الرئيس رفض التسليم بذلك "لعلة في نفس يعقوب"!
وما يزيد من المخاوف أن ترامب ذاهب إلى قمة من موقع غير متماسك، يعرف بوتين مواطن ضعفه، فهو محاصر بتحقيقات مشحونة بالكوابيس، ولا يجاريه أحد في إدارته ولا في الكونغرس، جمهوريين وديمقراطيين، في تقاربه مع بوتين.
ترامب يقف وحده في التودد إلى الكرملين، بما حمل جهات كثيرة على طرح علامات استفهام كبيرة حول انفراده بتلميع صورة الرئيس الروسي.
وضع تسبب بكثير من النفور بين الرئيس ومعظم أركان إدارته، وبما أدى إلى إقالة بعضهم، مثل الجنرال اتش. آر. ماكماستر، وحتى الوزير المقال ريكس تيلرسون.
ويبدو أن الجنرال الثاني، جون كيلي، كبير مسؤولي البيت الأبيض، بات هو الآخر على وشك المغادرة، وفق تسريبات حصلت عليها اليوم جريدة "وول ستريت جورنال".
وحتى الجنرال الثالث، جيمس ماتيس، قد لا تطول إقامته في وزارة الدفاع؛ إذ بدأ البيت الأبيض بإبعاده عن ملفات من صميم اختصاصه، مثل قرار وقف المناورات مع كوريا الجنوبية من دون التشاور معه، وذلك حسب معلومات منسوبة إلى مصادر في البنتاغون.
يضاف إلى كل ذلك أن الوضع السياسي الداخلي يندفع بسرعة نحو المزيد من التأزم والاشتباك السياسي العميق والمتوتر حول قضايا كبيرة تتضاءل فرص التوفيق بين الأطراف بشأنها، مثل قضية اللاجئين في الجنوب، وقضية الهجرة، ناهيك عن التحقيقات وما تلوح به من احتمالات قد تؤدي إلى نشوب أزمة كبيرة في الساحة الأميركية.
انعقاد القمة على هذه الأرضية يعطي بوتين أفضلية، كما أوحى الوزير السابق جون كيري في أول حديث سياسي معه بعد مغادرته منصبه.
معادلة يتوقع المراقبون أن تنعكس لصالح الكرملين من أوكرانيا إلى سورية، ولو تعذرت ترجمتها الآن على صعيد تخفيف العقوبات الأميركية ضد موسكو، التي تبقى إلى حد بعيد بيد الكونغرس المناوئ لموسكو.