عقب قرب انتهاء ولاية المبعوث الأممي السابق، مارتن كوبلر، منتصف العام الماضي تسابقت عديد الدول الفاعلة في الملف الليبي إلى تقديم مرشحيها لتولي المنصب خلفاً للألماني كوبلر، وتقدمت واشنطن في مارس/آذار من ذات العام بمرشحها ريتشارد ويلكوكس، لكنه اصطدم سريعاً بـ"فيتو روسي" تخوفاً من تكرار أدواره في العراق، التي تشبه أوضاعها ليبيا.
فملف ويلكوكس، الذي يحمل الجنسية الأميركية الألمانية، حافل بقضايا "حل الجيش العراقي وتقوية المليشيات الطائفية"، لينتهي الخلاف الأميركي الروسي بتقديم فرنسا لمرشحها اللبناني غسان سلامة، السياسي السابق ذي الثقافة الفرنكفونية، رغم أنه هو الآخر عائد للتو من مهمة أممية في العراق.
لم يمر على تولي سلامة لمنصبه في ليبيا أشهر حتى خرج بخطة أممية لرأب الصدع السياسي والأمني المتزايد في البلاد، أعلن عنها خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في العشرين من سبتمبر الماضي، وتقضي تلك الخطة بتوزيع الحل على ثلاث مراحل، تنتهي بانتخابات عامة في ليبيا عبر مرحلتي مفاوضات تعديل الاتفاق السياسي ومؤتمر وطني جامع يضم أطرافاً ليبية "مهمشة لإشراكها في الحل" بحسب وصف غسان.
ومنذ ذلك التاريخ لم يسجل على الإدارة الأميركية أي تواجد ملموس في الملف الليبي، فالرئيس الجديد للإدارة الأميركية دونالد ترامب لم يعين مبعوثا خاصا له في ليبيا، خلفاً للمبعوث السابق جوناثان ونر، كما أن سفرائها المتعاقبين في ليبيا لم يصدر عنهم مواقف فاعلة موازية لمستجدات البلاد السياسية، باستثناء رسائل دبلوماسية يغلب عليها طابع "المجاملة"، تؤكد على استمرارها في دعم "حكومة الوفاق" والاتفاق السياسي كـ "إطار للحل".
مقابل ذلك، انخرطت فرنسا بشكل لافت في دهاليز وكواليس الملف الليبي، الذي يبدو أنه زاد تعقيداً لأسباب عديدة من بينها عدم رضوخ اللواء خليفة حفتر لرغبات باريس بشكل كلي، وتغيير اتصالاته بعدة دول في كل مرة من بينها روسيا، لتكون ولاية فرنسا على الملف الليبي قصيرة جداً، ربما يكشف عنها تراجع كبير في تحركات سلامة السابقة وتضاؤل نشاطه وتراجع الحديث محلياً ودولياً عن الانتخابات بحل للأزمة الليبية.
ويبدو أن محاولات باريس عديد المرات إنقاذ ممثلها الأممي سلامة، سيما من خلال محاولة جمع ممثلي الأطراف الليبية نهاية مارس الماضي المتمثل في "إعلان باريس"، الذي اعتبره مراقبون وقتها لا يعدو أن يكون "نسخ لصق" لخطة سلامة الأممية ومحاولة لإقناع الأطراف بها، لم تجدِ نفعاً.
والغريب في الأمر أن يكون حفتر الذي راهنت عليه باريس، كحليف لها، سبباً في سقوط كل جهودها وانتقالها للهامش لصالح دول أخرى منافسة لها وعلى رأسها إيطاليا، التي عادت مؤخراً فيما يبدو بدعم أميركي.
ويمثل قرار حفتر نهاية الشهر الماضي القاضي بعد سيطرته العسكرية على منطقة موانئ النفط بالهلال نقل عملية التصدير والإنتاج لمؤسسة نفط يسيطر عليها في بنغازي، بمثابة نهاية الوجود الفرنسي بالملف الليبي المتراجع أصلاً منذ عدة أشهر، بالرغم من تغير في اتجاهاتها نحو طرابلس، لأول مرة، من خلال توجيه فرنسا دعوة رسمية في السادس والعشرين من الشهر الماضي لخصوم حفتر في الغرب الليبي، وتحديداً في مصراته، لزيارة باريس لمعرفة رأيهم حول إعلان باريس وإمكانية إجراء انتخابات في البلاد.
وحتى على المستوى الداخلي الليبي ساد شعور لدى الرأي العام بتخلي باريس عن حفتر، ترجمته وسائل إعلام محلية كان عنوان برامجها وصفحاتها يحمل مضمون أن "حفتر خذل حلفاءه"، إبان صدور مواقف الدول الكبرى المنددة بقرار سيطرة حفتر على موارد النفط، ومن بين تلك الدول باريس، التي يبدو أنها تشارك المجتمع الدولي غضبه من قرار حفتر.
ورغم الترحيب من قبل مكونات في الشرق الليبي بقرار حفتر إلا أن الرأي العام في البلاد وتحديداً في الشارع يبدو أنه عكس ذلك، فالمظاهرات التي شهدتها طرابلس تندد بالقرار وتطالب بتحييد مصدر عيشهم عن الخلافات السياسية.
مراقبون للشأن الليبي عبروا في وقت سابق أن روما كانت تراهن على الوقت، فالمدد الزمنية التي أعلن عنها سلامة ضمن خطته الأممية، وفصلها إعلان باريس فيما بعد بشكل أكثر تحديداً، كفيلة بإنهاء المسعى الفرنسي وإفشال كل خططه وطموحه في قيادة الملف الليبي.
ويبدو أن نهاية سلامة المدعوم من باريس بدأت بتعيين الدبلوماسية الأميركية، ستيفاني وليامز، في منصب نائب الممثل الخاص للشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، مما يكشف عن عودة أميركية قوية للملف الليبي لاحتواء كل الخلافات الأوروبية بما فيها الدور الفرنسي، أكده فيما بعد حضور وليامز على رأس لقاء مجموعة (3 + 3) يوم أمس بروما كممثل لسلامة الغائب عن اللقاء، ليعقبها في اليوم التالي جملة من القرارات المفاجئة والصادمة تمثلت في تراجع حفتر عن قراره بشأن النفط، واستجابة حكومة الوفاق لطلب حفتر بالتحقيق في مصارف وأموال النفط، وإذا ما كانت بالفعل ذهبت لتمويل خصومه.
وفيما كشف مصدر دبلوماسي ليبي لـ"العربي الجديد" أن دبلوماسياً أميركياً أوصل رسالة من واشنطن للأطراف الليبية تقضي بضرورة إنهاء النزاع على النفط وضرورة العودة للتفاوض حول الاتفاق السياسي، أعلنت قناة ليبية واسعة الانتشار وموالية لحفتر أنها حصلت على رسالة موجهة من ترامب إلى كل من عقيلة صالح رئيس مجلس نواب برلمان طبرق، وفائز السراج رئيس المجلس الرئاسي.
ونقلت قناة 218 الفضائية الإخبارية عن الرسالة أن ترامب هدد، صالح والسراج، بالملاحقة الدولية عبر قوانين العقوبات المعمول بها في هذه الأطر كمرحلة أولى تلحقها تهديدات مباشرة تصل حد استخدام القوة "بسبب" طريقة معالجتهما لأزمة النفط في البلاد مؤخراً.
وربطت الرسالة، بحسب القناة، بين مطلب ترامب بإعادة إنتاج النفط الليبي إلى مستواه السابق بـ "إرباك الحسابات الإيرانية في مطلب متكرر من الإدارة الأميركية بزيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار داخل منظمة أوبك"، مؤكدة أن الرسالة تضمنت الأمر بشكل واضح.