تلقّت طموحات وأحلام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مشروعه تحويل بلاده إلى دولة غير معتمدة على النفط كمصدر دخل رئيسي لها، ضربة قاسية عقب تدخل والده، الملك سلمان بن عبد العزيز، وإيقاف طرح شركة النفط السعودية المملوكة للحكومة "أرامكو" للاكتتاب في الأسواق العالمية للأسهم، وفق ما كشفته وكالة "رويترز" يوم الاثنين الماضي، في خبر منسوب إلى ثلاثة مصادر "مطلعين على بواطن الأمور في الحكومة" وفق خبرها الذي أفاد بأن "العاهل السعودي الملك سلمان التقى بأفراد في الأسرة الحاكمة ومصرفيين ومديرين كبار في قطاع النفط من بينهم رئيس تنفيذي سابق لشركة أرامكو في شهر رمضان الماضي (يونيو/حزيران) وأقنعوه بخطر طرح الشركة في الأسواق العالمية بسبب الخوف من إفصاحها الكامل عن تفاصيلها المالية". خبر لم تكذبه السعودية، وهو ما قد تنتج عنه تداعيات سياسية كبيرة نظراً إلى أن مشروع خصخصة جزء من أرامكو (5 في المائة من أسهمها) ظل يعتبر حجر الزاوية في المشاريع السياسية لولي العهد. وعليه بُنيت سياسات داخلية وخارجية ترتبت عليها نفقات مالية ضخمة كان بن سلمان يأمل بتعويضها عن طريق 100 مليار دولار ربما لن تدخل الموازنة السعودية في حال لم يتم تخصيص 5 في المائة من أسهم عملاق النفط العالمي "أرامكو".
واستغل ولي العهد تسليم والده مقاليد الأمور له، ليقوم بتصعيد الخطاب ضد إيران، ومن ثم محاصرة قطر في محاولة لفرض إملاءات على سياساتها الداخلية والخارجية، وقيامه بخطوات دبلوماسية اندفاعية مثل قطع العلاقات مع كندا واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري والتصعيد في العراق ولبنان.
وعلى الصعيد الداخلي، عزل بن سلمان ابن عمه محمد بن نايف من ولاية العهد، وقام بسجن معارضيه من أبناء الأسرة الحاكمة والمرشحين للحكم بشكل جماعي أقرب إلى الانقلاب، مثل الأمير متعب بن عبدالله في فندق "ريتز كارلتون" وحجز أموالهم وممتلكاتهم بتهمة الفساد، وحصّل منهم ما يقال إنه "مليارات الدولارات". كما قام بشن حملة اعتقالات ضخمة وعنيفة تجاه تيار الصحوة، أحد أكبر التيارات الدينية في البلاد، ثم عاد وشن حملة اعتقالات كبيرة ضد الناشطات الحقوقيات النسويات أيضاً. جميعها خطوات وقرارات أراد منها أن يوحي بوجود مشروع ولادة "سعودية جديدة" ليبرالية اقتصادياً وغير ريعية وفيها "انفتاح" اجتماعي نسبي لا نفوذ فيه للمؤسسة الدينية الوهابية، الشريك التاريخي للحكم السعودي.
ومن أجل تنفيذ الرؤية التي تقوم على تنويع مصادر الدخل، قرر ولي العهد في خطوة أولى فرض الضرائب على الشعب السعودي للمرة الأولى، ففُرضت ضريبة القيمة المضافة كما رفعت أسعار المحروقات بشكل جنوني، وارتفعت أسعار الكهرباء والمياه. وقررت الحكومة تقليل المنح في برامج الرعاية الاجتماعية وخفض الكثير من العلاوات المقدمة للموظفين في القطاعات الحكومية.
وجوبهت هذه الخطوات برفض كبير من قبل الخبراء الاقتصاديين الذين قالوا إن "بيع أرامكو سيمثل أكبر لعبة قمار في تاريخ الاقتصاد العالمي، وستفلس السعودية إذا ما فشل مشروع ولي العهد في التحول الاقتصادي"، والذي لم يُبنَ بحسب قولهم على "دراسات دقيقة". ما يعني أن البلاد ستفلس من النفط والريع، وستفلس من الدولة الاقتصادية الصناعية، مما يعني انهيارها على الفور.
ولم يتقبل ولي العهد الشاب والمندفع نصائح الخبراء الاقتصاديين الذين أعلنوا رفضهم لفكرة البيع، فقام بسجن الخبير الاقتصادي عصام الزامل أولاً في سبتمبر/أيلول الماضي، ثم عاد وسجن المستشار الاقتصادي السابق في شركة أرامكو، برجس البرجس، الشهر الحالي، نتيجة اعتراضهما على قرار البيع.
وقال دبلوماسي غربي سابق إن "الطرح العام الأولي لأرامكو كان من المفترض أن يكون مثالاً لمستوى عالمي جديد من الشفافية. ربما لأن هناك الكثير يحدث والقليل يتم تفسيره، فإنه يبدو كأنهم أصبحوا أسوأ في الشفافية". في المقابل، ثمة من لا يزال مقتنعاً بأن الظروف الاقتصادية بالنسبة لمشروع بن سلمان لا تزال مقبولة، بدليل أن سعر النفط عام 2016 كان حوالي 35 دولاراً للبرميل الواحد، بينما زاد اليوم إلى أكثر من الضعف وتقلص العجز في ميزانية الدولة بشكل حاد، "لذا فإن أمام الرياض مجالاً للعثور على وسائل أخرى لتمويل المشاريع" بحسب المتحدثين لـ"رويترز"، التي تعتبر أنه "حتى من دون الطرح العام الأولي فإن بإمكان المملكة أن تتوقع تدفقات أموال أجنبية بقيمة 20 مليار دولار أو أكثر في العام المقبل".
وبالإضافة إلى أرامكو، تقول السلطات إنها تسعى إلى بيع أصول أخرى مملوكة للدولة بقيمة 200 مليار دولار في السنوات المقبلة وهو ما يشكك كثيرون بواقعيته، علماً أنه حتى اكتتاب أرامكو لم يكن ليجمع أكثر من 50 مليار إلى 75 مليار دولار بحسب محللي "رويترز" إياها "لأن تقييم الأمير كان متفائلاً للغاية".
ويمثل تدخل الملك في إلغاء مصدر تمويل حلم ابنه، إشارة واضحة إلى مدى تخبط سير الابن في السياستين الداخلية والخارجية وعلى الصعيدين الدبلوماسي والاقتصادي، وفقدانه الثقة في قراراته الاقتصادية، خصوصاً أن الإلغاء مثّل ضربة قاصمة لحلم مشروع 2030 كون بيع أرامكو كان مصدر السيولة الأكثر أماناً بالنسبة لولي العهد لتمويل هذا المشروع. مما يعني أن بداية الهاوية لابن سلمان قد تكون عبر قرار الإلغاء هذا، لأنه يستمد جزءاً كبيراً من شرعيته في كونه يحمل مشروعاً اقتصادياً جديداً يخلص البلاد من الاعتماد الكلي على النفط.
واستكمل ولي العهد حلقة الفشل الاقتصادي، بعد أن أتم فشله السياسي في الحرب الطاحنة على الحدود الجنوبية له في اليمن، وفشله في حصار قطر ومحاولة إخضاعها طوال عام كامل، وفشله في العراق ولبنان، لتصل أزمات بلاده الناتجة عن ضيقه من أي انتقاد إلى دول كبرى مثل كندا والسويد، وتبنيه لسياسة اندفاعية أدت لنفور حلفائه الاعتياديين في الخليج والمنطقة العربية وخوفهم منه، إذ بات ابن سلمان لا يمتلك شرعية الدولة الريعية بعد قيامه بفرض الضرائب، ولا شرعية الدولة النيوليبرالية بعد فشله في بيع أرامكو، حجر الأساس للتحول الاقتصادي الكبير.
لكن الملك لم يبدِ أي بوادر حتى الآن للتدخل في لملمة الملفات الأخرى التي قام ابنه بتوريط بلاده فيها، رغم أنه أبدى موقفاً مبدئياً من رفض صفقة القرن التي حاول ابنه الترويج لها لتصفية القضية الفلسطينية بالتعاون مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ومن غير المعروف اليوم كيفية توزع النفوذ بين الملك سلمان وولي العهد داخل المؤسسة السعودية الحاكمة بأجنحتها السياسية والقبلية والعسكرية حتى، فضلاً عن عدم وضوح الحالة الصحية بالفعل للملك وسط أنباء متكررة عن نيته تسليم الحكم رسمياً لابنه، وهو ما لم يحصل رغم تكرار الكلام عنه منذ ثلاث سنوات. ونظراً إلى نقص المعلومات الآتية من السعودية حول الوضع الداخلي للأسرة الحاكمة اليوم، يصبح صعباً توقع ما إذا كان الملك يفكر بترك الأمور على حالها في المملكة على طريقة إدارة ابنه ولي العهد. وفي ظل هذه الصدمة في فشل الاكتتاب، وقيام السلطات السعودية بتسريح مستشاري الاكتتاب بشكل نهائي وفق ما ذكرت "رويترز"، فإن جولة جديدة من الاعتقالات ونكران حالة الفشل تبدو قريبة جداً وفق ما يعتقد مراقبون سياسيون، إذ دأبت السلطات الأمنية التي يديرها ويشرف عليها ولي العهد بنفسه كل مرة على اعتقال المزيد من المعترضين على كل حالة فشل متكررة تمر بها السلطات تحت قيادة ابن سلمان.