طرابلس... تهديد مستمر
بعد نحو أسبوعين من وقف إطلاق النار في العاصمة الليبية، تراجع الحديث عن المساعي لفرض الأمن بشكل حاسم في طرابلس، مع تزايد المخاوف من انهيار وقف إطلاق النار من أساسه. وكانت البعثة الأممية في ليبيا أعلنت عن مشاركتها في اجتماع لمناقشة السبل الفنية لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية في العاصمة طرابلس، الخميس الماضي، بمشاركة وزير الداخلية في حكومة الوفاق عبد السلام عاشور، وقادة عسكريين من طرابلس، من دون معلومات إضافية عما جرى.
أما السراج، الذي يبدو أنه لا يزال عاجزاً عن فرض سلطته في طرابلس، فحاول في تصريحاته ومواقفه أخيراً، الاستقواء بالدعم الدولي، لا سيما من قبل البعثة الأممية التي تمكنت من فرض اتفاق على الفصائل المتصارعة لوقف إطلاق النار في 4 سبتمبر/أيلول الحالي، وظهور رئيسها، غسان سلامة، إلى جانب السراج، الأربعاء الماضي، للإعلان عن تشكيل لجنة جديدة لتنفيذ الترتيبات الأمنية في العاصمة.
وهدد السراج، في أكثر من بيان له، بعقوبات دولية على "من يسعى لخرق اتفاق وقف إطلاق النار"، لا سيما أن مجلس الأمن أعلن الأربعاء الماضي إدراج قائد حرس المنشآت النفطية السابق إبراهيم الجضران، على قائمة العقوبات الدولية، في رسالة تهديد غير مباشرة لقادة المليشيات في طرابلس بأنها قد تلقى المصير نفسه. كما أن الاتحاد الأوروبي، أعلن الخميس الماضي، عن استعداد دوله، لـ"محاسبة كل من يعيق تنفيذ الاتفاقيات الأخيرة بشأن وقف إطلاق النار في العاصمة طرابلس أو يهدد عمل المؤسسات السيادية للدولة التي تعمل لصالح جميع الليبيين".
كذلك، تسربت أنباء عن جولة للسراج في عدد من العواصم الكبرى لبحث مستجدات أوضاع العاصمة، من بينها زيارة لندن وروما وواشنطن. لكن المكتب الإعلامي للسراج لم يؤكد منها إلّا لقاءه بقائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) الجنرال توماس والدهاوزير، والقائم بأعمال السفارة الأميركية، دونالد بلوم. وناقش المجتمعون في اللقاء "ما شهدته طرابلس في الآونة الأخيرة من أعمال عنف، والعلاقات الثنائية بين البلدين"، معلناً أن الولايات المتحدة أكدت دعمها لحكومة الوفاق.
بالتوازي مع ذلك، أعلن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، أول من أمس الأحد، تشكيل قوة مشتركة لـ"فض النزاع وبسط الأمن" في طرابلس. ونصّ القرار، على تشكيل قوة يقودها آمر المنطقة العسكرية الغربية اللواء أسامة الجويلي وتتكوّن من ثلاث كتائب مشاة خفيفة بالإضافة إلى وحدات من وزارة الداخلية. هذه الكتائب هي: كتيبة من المنطقة العسكرية الغربية وأخرى من المنطقة الوسطى وثالثة من قوة مكافحة الإرهاب. وأشار القرار إلى أن القوة الجديدة ستتولى "فرض السلام واستتباب الأمن في المناطق المحددة لها (العاصمة طرابلس) وتأمين وتحقيق أمن وسلامة المواطنين وممتلكاتهم وعودة الحياة الطبيعية وطمأنة السكان". كما تقوم القوة بـ"الفصل بين القوات المتحاربة وفض الاشتباك وتوفير الحماية لفرق مراقبة ورصد وقف إطلاق النار وتحديد أطراف النزاع والتواصل معها من خلال لجنة تشكل لهذا الغرض".
القبائل في أتون الفوضى
ودخلت القبائل الليبية على خط الأزمة، ففي ترهونة (90 كيلومتراً جنوب شرقي طرابلس) أُعلن عن ملتقى قبلي شاركت فيه ألفا شخصية، مساء السبت، انتهى إلى إمهال حكومة الوفاق "ثلاثة أيام لحل المليشيات في العاصمة". وأعلن الملتقى دعمه لـ"اللواء السابع والقوات التي تحركت لتطهير العاصمة من المليشيات"، وهو اللواء الذي يمثّل طرف الصراع الرئيسي ضد المجموعات المسلحة في طرابلس الموالية لحكومة الوفاق. وشدد الملتقى في بيانه على ضرورة "نزع الشرعية وحل المجموعات المسلحة المسيطرة على العاصمة في غضون ثلاثة أيام من تاريخ اليوم"، والبدء في "إجراءات تسليم المليشيات المسلحة كامل أسلحتها ومعداتها للجهات الرسمية المختصة وإلغاء الأجسام الموازية لها كافة". واعتبر البيان أن الترتيبات الأمنية التي أعلنت حكومة الوفاق تنفيذها في الآونة الأخيرة، ما هي "إلا مماطلة أو إبقاء على هذه المليشيات أو إعادة تدويرها بأي صورة من الصور". وعلى الرغم من أن بيان الملتقى، لم يشر إلى مآل الأوضاع بعد مضي الأيام الثلاثة، إلا أن إعلانه دعم اللواء السابع، إشارة ضمنية إلى إمكان عودة المواجهات إلى طرابلس في حال لم تتحقق مطالبه.
وبالتوازي شهدت بلدة جخرة، الواقعة في مناطق الحوض النفطي جنوب بنغازي، ملتقى قبلياً آخر الأحد، ضم لفيفاً من ممثلي القبائل الليبية. وعلى الرغم من إعلان لجنته التحضيرية أنه "يهدف إلى التوقيع على ميثاق شرف لكافة القبائل الليبية من أجل المصالحة الوطنية بين الليبيين ودعم مؤسسات الدولة إضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية"، إلا أن بنود أجندته المعلنة مسبقاً أشارت إلى ضرورة الإعلان عن تأييد المجتمعين لقوات اللواء خليفة حفتر، وتأكيد ضرورة دعم حفتر قائداً للجيش وإعادة النظر في شكل المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة وفاق جديدة.
ظلال حفتر حاضرة
ولا يبدو أن حفتر كان بعيداً عن أحداث طرابلس، فقد أظهرت صور بثتها وسائل إعلام ليبية خلال ملتقى القبائل في ترهونة، شخصيات مقربة من حفتر أثناء فعاليات الملتقى، أبرزهم منسق الشؤون الاجتماعية لحفتر، بلعيد الشيخي، الذي يُعتبر من أهم الشخصيات القبلية المقربة من الجنرال الليبي، والتي تجمع له الحشد الشعبي والقبلي، وتوفر له المقاتلين القبليين من شرق البلاد.
وكان حفتر، بعد نحو أسبوعين من اندلاع المواجهات في العاصمة، خرج وسط مؤيديه القبليين في بنغازي، في السادس من الشهر الحالي، ليعلن عن استعداد قواته لإجهاض الانتخابات "في حال لم تكن نتائجها نزيهة". كما لمّح خلال كلمته إلى وجود علاقة ما بينه وبين اللواء السابع في ترهونة، وهو ما كان محل اهتمام، لا سيما أن اللواء السابع، الذي برز في طرابلس بشكل مفاجئ، رافقته موجة تساؤلات حول انتمائه ومكوناته.
كما أصدر حفتر قراراً مفاجئاً السبت، يقضي بتشكيل مقدمة (فرع) لتمركز قواته في المنطقة الغربية، من دون أن يحدد قادتها ومكان تمركزها. وتضمّن القرار كذلك حل اللواء الرابع مشاة، على أن تؤول كافة أسلحته وآلياته ومعداته وأفراده إلى اللواء 28 مشاة. ويُعتبر اللواء الرابع مشاة من المجموعات المسلحة التي حافظت على تمركزها في معسكر جنوب طرابلس، طيلة السنوات الماضية، وهو مؤلف من مسلحين ينتمون لمليشيات قبيلة ورشفانة التي تقطن غرب العاصمة طرابلس. فيما يُعتبر اللواء 28 مشاة من ضمن قوات ترهونة.
مجلس السراج مهدد
ووسط الفوضى الأمنية في طرابلس، يواجه المجلس الرئاسي وحكومة السراج تهديداً فعلياً من قبل الأطراف السياسية الليبية. فعلى الرغم من الخلافات والتناقضات بين مجلس النواب في طبرق ومجلس الدولة في طرابلس، إلا أنهما بدوَا متفقين على ضرورة إعادة تشكيل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق. وحتى مؤيدو السراج من نواب طبرق، طالبوه في 29 أغسطس/آب بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي، في موقف واضح لتخليهم عنه، مؤكدين في بيان مشترك لهم، أن "المجلس الرئاسي بوضعه الحالي لم يعد يمثّل في نظرنا مفهوم التوافق الوطني المنصوص عليه بالاتفاق السياسي الليبي، وعليه يجب الشروع في إعادة هيكلة السلطة التنفيذية لتصبح مكوّنة من مجلس رئاسي برئيس ونائبين، ورئيس حكومة يعمل على تشكيل حكومة جديدة تنال الثقة من قبل مجلس النواب". وهو المطلب الذي حظى بترحيب المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، إذ أعلن الأخير، في اليوم التالي، عن تعاطيه مع الدعوة وسرعة تشكيل لجنة للنظر فيها والبدء في إعادة تشكيل المجلس وحكومة جديدة.
لكن هذا الاتفاق اليتيم بين المجلسين، يبدو أنه مهدد هو الآخر، إذ وُوجه بإعلان غريب، يشير إلى فوضى القرارات عند الأطراف الليبية. فقد دعت مجموعة من أعضاء مجلسي النواب والدولة مكوّنة من 28 عضواً، السبت، "كل الأجسام السياسية في البلاد، النواب والدولة وحكومة الوفاق، إلى الخروج من المشهد السياسي وإعادة الأمانة إلى صاحبها الشعب الليبي"، و"اتخاذ موقف تاريخي عبر الوفاء بكل الاستحقاقات اللازمة للوصول إلى انتخابات في موعد أقصاه 31 مارس/آذار 2019"، مؤكدين في بيان أن "الاتفاق السياسي تجاوز عمره الافتراضي وأن محاولات العودة إليه وإدخال تعديلات تتعلق بمخرجاته لن تؤدي إلا إلى تكرار سيناريوهات فاشلة".
حراك إقليمي ودولي
وكشأن الفوضى الداخلية، بدت مواقف الدول الفاعلة في الملف الليبي هي الأخرى متناقضة إلى حدّ كبير، ففرنسا لا تزال متمسكة بإجراء انتخابات في البلاد بحسب مقررات إعلان باريس، فيما تسعى إيطاليا لعقد مؤتمر دولي في النصف الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بغية العمل على تأجيل الانتخابات وفق رؤيتها ومصالحها. حتى أن وزير الخارجية الإيطالي، إنزو موافيرو ميلانيزي، قام بزيارة لحفتر في أحد مقاره العسكرية في بنغازي، الإثنين الماضي. وفيما لم تظهر تفاصيل تلك الزيارة باستثناء تسريبات أشارت إلى تلقي حفتر دعوة من الوزير الإيطالي للمشاركة في المؤتمر المقبل، لكنها كشفت بوضوح عن سعي روما للتقرب من حفتر، حليف باريس الأول في ليبيا.
في غضون ذلك، برزت تحركات منفصلة من دول أخرى. ففي القاهرة، كشفت مصادر ليبية رفيعة المستوى، ومصرية من داخل اللجنة المعنية بالملف الليبي، لـ"العربي الجديد"، عن لقاء على مستوى رفيع عُقد أخيراً، جمع سيف الإسلام القذافي، نجل العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، ومسؤولاً إماراتياً بارزاً، رجحت أن يكون مدير الاستخبارات الخارجية ومستشار الأمن القومي في الإمارات، طحنون بن زايد، ومسؤولاً أمنياً مصرياً رفيع المستوى، لمناقشة إعادة ترتيب البيت الليبي، وفقاً لتصور مصري إماراتي، لإمكانية إيجاد بدائل متعددة ومقبولة ليبياً، للدفع بها إلى المشهد السياسي، تحت سيطرة كاملة من تحالف القاهرة وأبوظبي، من بينها دعم رجوع سيف الإسلام إلى المشهد.
كذلك كشف موقع "أتلانتيك كاونسل" الأميركي، تفاصيل ما قال إنها خطة بديلة لليبيا لمّح إليها غسان سلامة، خلال إحاطة له أمام مجلس الأمن مطلع سبتمبر الحالي، بعدما أشار إلى بدء فقدان الأمل بنجاح إعلان باريس في إيصال العملية السياسية بالبلاد إلى بر الأمان، مؤكداً وجود "سبل أخرى". وأشار الموقع إلى أن نائبة سلامة، الأميركية ستيفاني وليامز، تقدّمت بهذه الخطة، التي تقوم على عقد مؤتمر وطني ليبي جامع، تصدر عنه دعوة لمجلس الأمن إلى سحب الاعتراف بكل المؤسسات السياسية في البلاد، التي تستمد شرعيتها من القرار الأممي رقم 2259، على اعتبار أنها فشلت في المهام الموكلة إليها، وباتت جزءاً من المشكلة. بعد ذلك، يتقدّم المؤتمر الوطني بـ"نصيحة" إلى الأمم المتحدة، مفادها أن إجراء انتخابات رئاسية في الوقت الحالي، الذي تعيش فيه البلاد تشرذماً وانعداماً للأمن، سيقود إلى تعميق الأزمة. وثالثاً، يطالب المؤتمر مجلس الأمن بقرار تحت الفصل السابع، من ميثاق الأمم المتحدة، بما "يجبر" جميع الأطراف في ليبيا على تنظيم انتخابات برلمانية عامة في غضون ستة أشهر، وفقاً للتشريعات القائمة حالياً. أخيراً، تصدر الولايات المتحدة وحلفاؤها، بموجب الخطة، تحذيرات مباشرة وحازمة لجميع الأطراف، بشأن احترام نتائج العملية وعدم عرقلتها. وفي ضوء التطورات السياسية والميدانية، فإن الخطة الجديدة بملامحها النهائية، قد تصبح واقعاً في مؤتمر روما، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بحسب "أتلانتيك كاونسل".