في مقال مطول كشف الصحافيان إيدوي بلونيل وتوماس كانتالوب في موقع "ميديا بارت"، الإخباري الفرنسي، عن أسرار العلاقات "التاريخية" بين فرنسا والمملكة العربية السعودية، ويفضحان فيه ما يعتبرانه سقوطاً فرنسياً صاعقاً أمام الإملاءات السعودية، التي تقترب من الابتزاز.
واعتبر الصحافيان ذلك سقوطاً مدويّاً لحقوق الإنسان والمرأة ولحرية واستقلال فرنسا نفسها، باعتراف رئيس جمهورية فرنسي سابق، وأكدا أن الموقف من السعودية أصبح لازمة فرنسية، وأن "الواقعية السياسية"، كما مارسها الرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا هولاند، ويواصلها خلفه إيمانويل ماكرون، انتصرت على مُثُل فرنسا.
وعلى غرار سلفه يرتّب ماكرون سياسته الشرق الأوسطية مع مصالح الرياض، ويتعلق الأمرُ بـ"خيار غير أخلاقي"، كما كتب بلونيل وكانتالوب، في مقالهما الذي نشر السبت، والذي يتمثل في بيع أسلحة تستَخدم في الحرب القذرة في اليمن، كما أنه "يعمّق، وبشكل غير مسؤول، التبعية الطاقوية والجيو-سياسية الكارثية" لفرنسا.
ويتحدث المقال عن لقاءات جرت، منذ سنة ونصف، بين الإيليزيه ومسؤولين في منظمات غير حكومية إنسانية وآخرين يشتغلون في الحقوق الإنسانية، تطرقت للمأساة التي تولّدها حرب اليمن، وتضمنت شكاوى من مبيعات الأسلحة الفرنسية الضخمة إلى بعض الديكتاتوريات، وخاصة دول الخليج ومصر. والحقيقة أن هؤلاء المحاوَرين الإنسانيين يتم استقبالهم بشكل جيد ويُنصَت إلى وجهات نظرهم باهتمام، بل ويبدو، كما يعترف أحد من شارك في كثير من هذه الاتصالات، أن "خطاباتهم وتوصياتهم حظيت بالقبول".
إلا أن الحقيقة هي غير ذلك، كما يؤكد المقال، فـ"الأمر لم يتغير، في الأيام والأسابيع، واكتشف هؤلاء المبعوثون أنه لم يسمع إليهم ولم يتلقوا أي تقدير واحترام". وفي كل مرة تعود إلى أفواه المسؤولين الحكوميين الفرنسيين نقطة خلاف جغرافية، تتمثل في العربية السعودية. فـ"المملكة التيوقراطية المطلقة لا يمكن التعرض لها".
فهي كما يكتب صحافيا ميديا بارت: "تستطيع أن تقصف، من دون أخذ احتياطات في ما يتعلق بالمدنيين في اليمن؛ وتستطيع أن تسجن، بشكل غير مُحدَّد، نشطاءَ ديموقراطيين ومدافعين عن حقوق النساء، وتستطيع تصفية عدد متزايد من المحكوم عليهم. كما أنها تستطيع أن تمارس إسلاماً متشددا لا تُحسَد عليه نظرياتُ تنظيم داعش. كما أنها تستطيع إفقار شعبها، بينما نُخَبُهَا تكدس يُخوتاً وقصوراً في الخارج".
وتستطيع العربية السعودية، كما يوضح المقال: "أن تختطفَ رئيسَ حكومة بلد صديق، لبنان؛ إنها تستطيع فعل كل هذا، وفرنسا لا ترفع أبداً صوتَها. والأسوأ أن فرنسا تتملق الرياضَ وتبسط أمامها السجاد الأحمر في أدنى مناسبة". ثم يتساءل الصحافيان: "ما الذي لن تفعله فرنسا من أجل الحصول على مِنَن وأفضال السعودية؟" ثم يجيبان: "لا شيء، فيما يبدو".
والظاهرة (ظاهرة تبعية فرنسا للسعودية) ليست جديدة، بشكل كامل، ولكنها اكتست أهمية، خلال السنوات الأخيرة، تحت رئاسة هولاند، في البداية، ثم تحت رئاسة ماكرون.
ويرى الصحافيان أن تعيين سيلفان فور، وهو من المقربين لماكرون، في إدارة قُطب الاتصال في الإيليزيه، مؤخَّراً، قد يساهم في زيادة هذا الميل نحو آل سعود. إذ إن الشخص، الذي كان مُكَلَّفاً بـ"تحسين صورة المملكة وتأمين سياسة اتصال محمد بن سلمان (ولي العهد السعودي) في فرنسا"، كما كشفت صحيفة "لوموند"، يندرج ضمن لوبي يشتغل، حتى الأمس القريب، لمصلحة السعوديين، الذين لا يُعرَف عنهم البخل، وسيحتلّ منصباً مهماً في رئاسة الجمهورية الفرنسية.
ويرى الصحافيان الفرنسيان أن "ثلاثة أشياء، السلاح والنفط وإيران، تملي على فرنسا علاقتها مع السعودية، وتقودها إلى غضّ طرفها عن واحدة من أكثر دول الحكم الفردي القمعية والقاتلة على وجه الكرة الأرضية".
ويشرحان أنه "تحت حكم هولاند، كان الوزير جان إيف لودريان، وزيرا للدفاع وأيضا وزيرا للسلاح. وكان معروفاً بأنه المدافع المستميت عن بيع السلاح الفرنسي لدى البلدان الحريصة على التسلح بالصواريخ والطائرات والدبابات. وهو أول من نجح في بيع طائرات رافال إلى الخارج. كما أنه هو من ضاعَف مبيعات السلاح للسعودية، من 400 مليون يورو، سنة 2013، إلى 600 مليون سنة 2015، إلى 1 مليار يورو سنة 2016".
ويرى الصحافيان، أيضا، أن هذا الوزير، الذي انتقل إلى حركة ماكرون السياسية، واصَلَ، حسب اعترافات مقربين من السلطة، "الإشراف على بيع السلاح، كما أنه ظلّ من بين المُحاوَرين المفضلين لزبائن فرنسا".
وإذن فإن الدبلوماسية الفرنسية، كما يكتب الصحافيان: "ليست دبلوماسية احترام الحقوق البشرية، كما يُصرَّح في غالب الأحيان، ولكنها دبلوماسية مصالح صناعة المَدافِع".
ويضيفان: "بما أن السعودية لا ينقصها متملّقون في هذا الميدان، وفي المقام الأول، الولايات المتحدة الأميركية، فإن فرنسا تُجهد نفسَها على فعل كل شيء للحفاظ على علاقات جيدة معها". ولا تستطيع فرنسا أن توبّخ السعودية على القتلى المدنيين الذين بالإمكان تجنبهم، في اليمن، حتى ولو ثبت استخدامُ سلاح فرنسي، باعتراف وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي. وتَلزَم فرنسا الصمت حين تعتقل نساء مدافعات عن حقوق المرأة، منذ أكثر من 100 يوم، خلافا لموقف كندا.
وحين تحاول منظمة الأمم المتحدة، وبصعوبة، إلقاء القليل من الضوء على مصير المدنيين في اليمن، تقوم فرنسا بوضع عِصِيّ إجرائية في دهاليز الأمم المتحدة، ثم تظل صامتةً حين يتحدث رئيسُها (أي الأمم المتحدة) بكلمات مبطَّنَة عن إمكانية اتهام السعودية بجرائم حرب.
وتباهى ماكرون بأنه أتاح تحرير رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 أثناء رحلة قصيرة إلى الرياض. وهنا يتحدث دبلوماسي فرنسي عن معركة شديدة من النقاشات، جرت خلال ساعات عديدة، في مواجهة محمد بن سلمان، الذي لا يُكنّ تقديرا لفرنسا، والذي اضطر معه ماكرون لتذكيره بأنه يتحدث إلى قوة عضو في مجلس الأمن. ولكن ما فعله ماكرون من أجل الحريري، لم يَسْرِ على باقي القضايا.
وفي مواجهة مثل هذا الخنوع، ينصح الصحافيان الفرنسيان بألاّ نصاب بالذهول، حين ينتاب المنظمات غير الحكومية وأيضا نشطاء الحقوق البشرية شعورُ مَن يصرُخُ في واد، إذ "على الرغم من أنهم يحاورون مستشارين وأعضاء تنفيذيين لهم نوايا حسنة، إلا أن كلامهم سرعان ما يكنسه، دونما تردد، ماكرون ولودريان وأتباع الواقعية السياسية في الأعمال".
ويعترف الصحافيان أن فرنسا حريصة، على الرغم من جودة علاقاتها مع السعودية، على ألا تكشفَ أمام الإعلام عن صورة تمثل عقدا مع السعودية حول "النفط مقابل الأمن"، على طريقة الرئيس الأميركي الراحل، فرانكلين روزفلت والملك ابن سعود في فبراير/شباط 1945.
وكمثال على سرية العلاقات بين البلدين يتحدث الصحافيان عن "إنقاذ فرنسا، سنة 1979، للمملكة السعودية من إهانة قاسية أثناء اقتحام الحرم المكيّ، بفضل دعم سري من طرف قوات النخبة الخاصة للدرك الوطني الفرنسي".
وصحيح أن فرنسا، كما يكتب الصحافيان، تملك أفكاراً ولا تملك نفطا، ولكنها في حاجة رهيبة إلى الذهب الأسود. وإذا كانت روسيا، ما بين 1990 و2012، هي المُصدّر الرئيسي للمواد النفطية، إلا أن السعودية، قفزت، ابتداء من سنة 2013، إلى المقام الأول. وبسبب التوتر مع روسيا، أصبح من الصعب مخاصمة السعودية.
وهنا يكمُنُ ضعف الموقف الفرنسي: "خلافا لسوق السلاح، حيث المشتري هو الذي يكون في موقع قوة، فإن السلطة على سوق النفط تعود للبائع. وإذن ففرنسا خاسرة في مواجهة الرياض، في كلا الحالتين".
وهذا ما يعتبره الصحافيان "خضوعا اقتصاديا مزدوجا". وإضافة إلى هذا الوضع، "وجدت فرنسا نفسَها مندمجةً في تحالفات معقدة في الشرق الأوسط، إلى جانب السعودية ضد إيران"، وهي بالتالي، "مندفعة في هذا التحالُف المُشكَّل من المُزايدات الحربية التي يشكلها محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في تَحوُّلٍ صاعقٍ، حيث أصبح البيتُ الأيديولوجي والمالي لأسوأ إرهاب إسلاموي الحليفَ الأقربَ لدولة إسرائيل، التي استسلمت أمام اليمين المتطرف وهذياناته الأبرتهايدية".
وهذا الخيار الفرنسي خيار سياسي خالص. وهو يتولد، كما يكشف الصحافيان، "من الصعود البطيء لمحافظين فرنسيين جدد في وزارة الخارجية وفي الإيليزيه، بدأ صعودهم في حكم (الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا) ساركوزي، واستمر مع هولاند وحافَظ عليه ماكرون".
وهذه الحفنة من الموظفين السامين المنحازين لم يتوقف صعود تأثيرها. وهم يرون في إيران مهددا للسلم العالمي من العربية السعودية، رغم أن 15 من بين 19 انتحاريا في 11 سبتمبر/ أيلول كانوا سعوديين، ورغم البروباغاندا الوهابية على باقي الكرة الأرضية، وخاصة في أوروبا، ورغم غياب أي سلطة مضادة في مواجهة العائلة المالكة.
وأضاف "ميديا بارت" إنّ "رسوخ فكرة حصول إيران المحتمل على السلام النووي أصبح عقبة أمام كل تقييم عقلاني للخطر"، كما يعترف الصحفيان. إذ إنه "أثناء سنوات المفاوضات التي أدت إلى اتفاقيات فيينا حول النووي الإيراني، كان المُفاوِضون الفرنسيون، باعترافهم، أكثر تشددا وأكثر عنادا مقارنة مع نظرائهم الأميركيين".
صحيح أن إيران، كما يكتب الصحافيان الفرنسيان، ليست المَثَل الأعلى للفضيلة ولا نموذجا لاحترام الحقوق الأساسية، ولكنها بلد تخترقه تيارات تعبير متناقضة، وتقام فيها انتخابات، كما أن سكانها يتمتعون بدرجة تربية عالية، ويتعطشون إلى وضع حدّ لعقود من العزلة. كما أنها ليست بلدا يكون فيه مزاج مَلِكٍ أو ابنه قادرَين، في ليلة واحدة، على قلب حَوْكمة المؤسسات، رأسا على عقب، وعلى التهديد بشن حرب على أحد الجيران، إذا لم يخضع لقائمة من الشروط، وتشييد مشاريع تنمية وهمية تساهم، بشكل خاص، في إثراء المصارف الأجنبية.