خاطب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الأربعاء، مواطنيه من المكتب البيضاوي عبر شبكات التلفزة الرئيسية، حول الأزمة "الإنسانية والأمنية" على الحدود الجنوبية، ومشكلة الإغلاق الحكومي التي نتجت منها، والتي افتعلها البيت الأبيض باعترافه.
في العادة، لا يتحدّث الرئيس إلى الشعب الأميركي بهذه الصيغة إلا في القضايا غير الاعتيادية أو الأزمات الجدّية التي عالجها على مسؤوليته، أو يزمع على معالجتها بصورة تقتضي مكاشفة الجمهور بخصوصها، والتماس التفافه حول القرار الرئاسي.
من النماذج، خطاب الرئيس جون كينيدي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، وخطاب الرئيس رونالد ريغان في فضيحة إيران- كونترا. وعموماً يتجاوب الأميركيون مع مثل هذه المفاتحة ويبدون تفهمهم لحساسية الظرف.
لكن موضوع خطاب الرئيس ترامب، الليلة الماضية، لم يكن من هذا الفصيل ولا بهذا الحجم. ولهذا كانت الاستجابة لندائه فاترة، إن لم تكن بائسة، حسب ما نطقت به الردود الأولية.
لا جدال في أنّ الوضع على الحدود مع المكسيك غير طبيعي، ويعاني من التسيّب الذي سمح بتسلل موجات هجرة غير قانونية إلى الداخل الأميركي. لكن هذه الفوضى مزمنة وليست طارئة. كما أنّها ليست مستفحلة.
التسلل في العام الماضي هبط إلى أقل نسبة تسجل منذ 45 سنة. وبالتالي ليس هناك ما يستوجب العجلة لبناء الجدار الحدودي الذي وعد به ترامب في حملته الانتخابية.
إصرار الرئيس، وبتحريض من المحافظين والمتشددين، على مطالبة الكونغرس بتخصيص مبلغ 5 مليارات دولار كدفعة لهذا المشروع في الشريحة الأخيرة من الموازنة، أدى إلى الإغلاق.
اشترط ترامب إقرار المبلغ لتمرير الموازنة، والحزب الديمقراطي رفض الطلب من باب أنّ الجدار غير ضروري، فكانت العقدة المستمرة منذ ثلاثة أسابيع ونيف.
الحقيقة التي لا يجهلها أحد في واشنطن، أنّ المشكلة ليست مالية، وأنّ الجدار الحدودي لا يجري التمسّك به لأهميته الأمنية المشكوك فيها، والتي لا تبرر الكلفة الإجمالية، البالغة حوالى 25 مليار دولار.
المشكلة أنّ ترامب ارتبط بوعد انتخابي لا يقوى على ترجمته، ولا يحظى بحماسة حتى في صفوف الجمهوريين التقليديين. الجناح المحافظ الذي لا يستغني ترامب عن دعمه، حثّ على وجوب تمرير المشروع، عشية انطلاق حملة انتخابات 2020.
فوز الحزب الديمقراطي بالأغلبية في مجلس النواب، في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وضع بناء الجدار في منزلة شبه المستحيل. والآن صار التراجع أصعب، وباتت المخارج أبعد.
والمتوقع بعد الخطاب "الذي لن يكون تأثيره السياسي أكثر من صفر"، كما قال الخبير الانتخابي جيمس كارفيل، أن يلجأ ترامب إلى خيار إعلان حالة الطوارئ في المنطقة الحدودية الجنوبية، وبما يسمح له بتحويل المبلغ المطلوب من موازنة وزارة الدفاع (البنتاغون) التي سبق أن جرى إقرارها، للبدء في بناء الجدار.
تصعيد من شأنه شلّ العلاقة مع الكونغرس، وفتح باب مقاضاة خيار الرئيس لإبطاله، بحجة عدم دستوريته. محاكمة قد تطول لعدة أسابيع أو أشهر وربما أكثر، مع كل ما يترتب عليها من إرباك لإدارةٍ صارت مكبّلة بالأزمات التي تتفرخ من حولها على غير انقطاع.
ففي ذات اللحظة التي تتفاقم فيها أزمة الإغلاق الحكومي، بدأت التحقيقات الروسية تتكشّف عن خلاصات محرجة، كان آخرها اتهام بول مانافورت مدير حملة ترامب الانتخابية، بالكذب "وبتزويد جهات روسية بمعلومات عن سير الحملة الانتخابية". تهمة إذا ثبتت، من شأنها تعزيز الشبهة حول وجود تواطؤ بين حملة ترامب والروس.
وفي ذات اللحظة أيضاً، تفاقم مأزق قرار ترامب الانسحاب من سورية، ونشأت عنه أزمة مع أنقرة.
وكل ذلك يحصل في وقت لا تزال فيه الشواغر في وزارات أساسية على حالها، بعد موجة الإقالات والاستقالات التي تلاحقت، لا سيما في آواخر العام الماضي، وبما ضاعف الفوضى في مطبخ صناعة القرار، وزاد من المخاوف بشأن عملية التعاطي مع الملفات والاستحقاقات القادمة، خاصة إذا ما تضخمت وطالت مشكلة الإغلاق الحكومي التي قد يكون الخروج منها على يد الجمهوريين المعتدلين في الكونغرس، الذين تتوسع الهوة بينهم وبين الرئيس.