وأوضح المجند أنه "لا يوجد من يمكن أن أشتكي له، إذ إنّ الضباط ذاتهم ضربوني، وفكرت في الهرب، ولكن نحن في قطعة مغلقة". وخلص شمس الدينوف إلى أنه نادم على قتل شخصين فقط "حضرا صدفة إلى المكان"، ولكنه لم يُبدِ أي ندم على قتل الضابط وزملائه الخمسة الآخرين.
ونقلت "كوميرسانت أورال" ومحطات محلية عن سليم شمس الدينوف، والد المجند، الأربعاء الماضي بعد زيارة ابنه قوله إنه "لم يلاحظ أي اضطرابات عصبية أو نفسية عليه"، وهو ما يتوافق مع تقرير لجنة طبية كشفت على المجند، على عكس ما حاولت وزارة الدفاع ترويجه بعد الحادث بأنه كان في حال انهيار عصبي لحظة إطلاق النار على زملائه.
وأثارت حادثة المجند شمس الدينوف جدلاً واسعاً في روسيا، ففيما سعت بعض الأطراف إلى استغلال أصوله الإثنية والدينية التترية المسلمة لترويج انتمائه إلى جماعات إسلامية متطرفة تعادي الدولة الروسية، هبّ فريق واسع للدفاع عنه. وبعد نبش وسائل الإعلام سيرته الذاتية، اتضح أنه منذ الصغر كان نشطاً اجتماعياً ورياضياً، وكان يحلم بأداء الخدمة العسكرية.
وأبدى كثير من الروس تعاطفهم مع المجند، على الرغم من حادثة القتل، وعزا خبراء هذا التعاطف الشعبي إلى معرفة الناس لواقع الخدمة في صفوف الجيش الروسي، وما يواجهه صغار المجندين من فظائع ينفذها قدامى المجندين والمتعاقدين والضباط بحقهم. وفي مقابل التبريرات الحكومية، وقّع أكثر من 30 ألف روسي في غضون أيام، عريضة على موقع change.org المختص بالعرائض، طالبت الحكومة بالاعتراف بأنّ تصرفات شمس الدينوف "دفاع عن النفس"، ولفت الموقعون إلى أنّ "ظاهرة تسلط الجنود القدامى والضباط وتنمرهم على الجنود الجدد متفشية في الجيش الروسي، وراميل هو ضحية"، مرجحين أنّ "الشاب قد وصل إلى حالة نفسية اعتبر فيها أنّ القتل هو المخرج الوحيد".
من جهتها، أشارت رئيسة فرع المنظمة الاجتماعية لـ"لجنة أمهات الجنود"، فالنتينا موردوفا، في تصريحات صحافية، إلى أن "شمس الدينوف أُجبِر على تلاوة ميثاق الجيش وتنظيف المراحيض، وبعد ذلك، قال الملازم إنها نُظِّفَت بنحو سيئ، وبدأ في حشر رأس شمس الدينوف في المرحاض". وأضافت موردوفا أن الأخير "قاوم هذا الفعل، وحينها أمر الملازم الجنود الآخرين بتأديبه".
بدورها، قالت الأمينة العامة لاتحاد لجان أمهات الجنود، فالنتينا ميلنيكوفا، لموقع "سوبيسيدنيك" الإخباري الروسي إنّ "من الصعب تخيل ما فعلوه به (شمس الدينوف) ليوصلوه إلى هذه الحالة. نسمع عن فظائع هذه الوحدة حيث خدم شمس الدينوف، منذ فترة طويلة. هناك سُخِّر الجنود كعبيد لمصانع الطوب، واختفى عدد من المجندين. في مثل هذه الحالات، تكون القيادة دائماً هي المذنبة".
وتمثل حادثة القتل الأخيرة نكسة كبيرة لجهود الكرملين الذي استطاع بصعوبة بالغة تغيير الصورة النمطية السيئة للخدمة العسكرية، إثر ضمّ شبه جزيرة القرم والتدخل في شرق أوكرانيا والعملية العسكرية الروسية في سورية، على خلفية رفع شعارات الروح القومية من جديد والتشديد على استعادة أمجاد روسيا. وبالكاد استطاعت وزارة الدفاع جذب مزيد من الشبان من أجل تأدية الخدمة العسكرية بعدما كانوا يتهربون بشتى الوسائل والسبل عبر دفع الرشى للحصول على عفو طبي من الخدمة، وتمديد فترة الدراسة أو حتى المغادرة إلى الخارج حتى يسقط عنهم سنّ التجنيد الاجباري. ومن أجل محو صورة التسعينيات القاتمة عندما كان يموت الجنود من البرد والجوع في القطع العسكرية النائية، ويجبرهم الضباط على دفع الرشى لمنع تعذيبهم وإهانتهم، افتتحت وزارة الدفاع الروسية منذ ثلاث سنوات "الحديقة الوطنية"، وأنفقت أموالاً طائلة من أجل بناء الحديقة الأشبه بـ"ديزني لاند" عسكرية على مشارف موسكو، يستطيع فيها الشبان التقاط الصور مع المعدات العسكرية ومتابعة مسابقات تثبت قوة عناصر الجيش. كذلك افتُتحَت قناة خاصة بالجيش تحت اسم "زفيزدا" (النجمة)، تبث فيها المناورات والتدريبات العسكرية، وتعرض أحدث الأسلحة. وعلى الرغم من أنّ استطلاعات للرأي بيّنت في السنوات الماضية أنّ معظم من تراوح أعمارهم ما بين 18 و24 عاماً يقولون إنهم يفضلون إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، إلا أنّ بعض الشباب بدأوا يستجيبون لنداء الجيش.
وفي السياق، قال المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، في تصريحات له أخيراً، إنّ "من غير المناسب ربط حادثة القتل بفشل إصلاحات الجيش". ومع تأكيده أنّ ما حصل يمثل مأساة، إلا أنّ بيسكوف رأى أنه "حادث عرضي يجب فتح تحقيق فيه". لكنّ نشطاء حقوقيين يشيرون إلى أنّ الجيش يعاني فساد القادة، وتتواصل فيه عمليات تنكيل وحشية من الجنود القدامى والضباط. كذلك فإنّ كثيراً من العائلات تدفع مبالغ كبيرة كرشىً لتجنيب أولادها أداء الخدمة العسكرية لعدم ثقتها بأنّ الأوضاع تحسنت كثيراً.
ومعلوم أنّ روسيا أطلقت حملة إصلاحات واسعة في الجيش بعدما كشفت حرب جورجيا في 2008 عن حال الترهل التي وصل إليها الجيش الأحمر. وفور الانتهاء من الحرب، ونتيجة لاستخلاصات خبراء عسكريين، أعلنت روسيا إجراء إصلاحات واسعة في الجيش لتحسين أوضاع الجنود والضباط وبناء جيش مهني، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2008. وفي عام 2011، وفور بدء تعافيها من الأزمة المالية العالمية، أطلقت روسيا برنامج تسليح بقيمة 670 مليار دولار يستمر حتى عام 2020. وعملياً، زُوِّد الجيش في السنوات الأخيرة بأسلحة "لا تقهر" حسب تعبير الرئيس فلاديمير بوتين في أكثر من مناسبة، وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بمرات، وقادرة على تخطي جميع منظومات الردع الصاروخية والرادارات. وأعادت روسيا بناء أساطيلها البحرية، وحدّثت العتاد والمركبات والدبابات في جيشها ضمن الخطة القاضية بوضع جميع التشكيلات القتالية في حالة التأهب الدائم، مع رفع فعالية نظام قيادة القوات وإنهاء المركزية السابقة، ومنح المناطق العسكرية حرية أكبر للحركة، ما يسرّع الرد في حال حصول أي عدوان، وإكمال نظام إعداد الكوادر والعلوم العسكرية، مع إدخال أحدث الأسلحة وتطويرها.
وفيما نجحت روسيا نسبياً في إنجاز خططها السابقة، إلا أنها ما زالت عاجزة عن تحسين الأوضاع الاجتماعية للعسكريين، والأهم أنها أخفقت في القضاء على الفساد المستشري في صفوف الجيش منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وعلى الرغم من أنها رفعت مخصصات الجنود والضباط، إلا أنها لم تتمكن من تغيير نمط التعامل الداخلي في الجيش بين المجندين الأغرار والقدامى، وكذلك بين المجندين والضباط.
وعلى الرغم من تحسّن ظروف الخدمة العسكرية، وفق ما أعلنته وزارة الدفاع والحكومة الروسية في أكثر من مناسبة، تتكرر في السنوات الأخيرة حوادث إطلاق النار وأعمال العنف وحالات الانتحار بين المجندين، وخصوصاً الإلزاميين. واللافت أنّ التبرير الرسمي لدوافع معظم حوادث العنف والانتحار في صفوف المجندين، أنها واحدة، وبرأي الهيئات العسكرية الروسية، "تتعلق بظروف شخصية لا تمتّ إلى الخدمة بصلة".
وفي إبريل/نيسان 2002، أعلن فلاديمير بوتين، في رسالة إلى الجمعية الفيدرالية، أنّ إحدى أولوياته خفض مدة الخدمة العسكرية، لتجنب مسألة ترهيب الجنود الجدد واضطهادهم من قبل زملائهم القدامى، بعد أن أظهرت استطلاعات للرأي أنّ مسألة إصلاح القوات المسلحة أصبحت إحدى المهام الرئيسية والملحّة في نظر المواطنين.
وقال معظم المشاركين في تلك الاستطلاعات حينها، إنهم يأملون القضاء على تقليد إذلال المجندين الجدد وإهانتهم، أو كما يسميه الروس "ديدوفشينا" (وهي مشتقة من كلمة "جد"، ويشار بها إلى المجند الذي خدم فترة شبه كاملة في الجيش أو أكثر). وفي منتصف 2006، وقّع بوتين مرسوماً يقضي بخفض مدة الخدمة العسكرية إلى عام واحد، بدلاً من عامين. وقال وزير الدفاع آنذاك، أناتولي سيرديوكوف، إنّ هذا الإجراء سيسمح بمحاربة التقاليد السيئة في الجيش، وتدمير طائفة "الأجداد (قدامى الجنود)، وسيمحو مفهوم الأرواح (المجندين الجدد)".
وفي وقت لاحق، أعلن وزير الدفاع الحالي سيرغي شويغو أنه قُضي بالفعل على ظاهرة "ديدوفشينا"، مؤكداً في أكثر من مناسبة أنّ "التنمر في الجيش قد انتهى، وأنّ النظام الهرمي للضرب والإهانات والعنف البدني والمعنوي الذي كان قائماً من قبل، هو شيء من الماضي".
ووفقاً لشويغو، فقد خُفضَت مشاكل علاقات الجنود فيما بينهم إلى مستوى "بعض الشغب والخلافات المعيشية". لكن الوقائع تثبت أنّ التنمر والبلطجة والاضطهاد لم تختف من الجيش، لا بل إنه في الآونة الأخيرة، بدأ تنمر الزملاء بعضهم على بعض يأخذ شكل أعمال انتقامية دموية ضد الجناة باستخدام أسلحة الخدمة أو الانتحار.
وفي العام الماضي، أطلق مجند من ولاية بورياتيا يبلغ من العمر 22 عاماً، النار على نفسه قبل شهرين من انتهاء مدة خدمته العسكرية الإلزامية. واتضح من تفاصيل التحقيقات الصحافية في ذلك الحين، أنّ الوحدة العسكرية التي خدم فيها الجندي المنتحر تحظى بسمعة سيئة، إذ يُهين الضباط فيها المجندين، ويجبرونهم على التخلي عن المخصصات المالية الزهيدة التي يتقاضونها لقاء خدمتهم، بالإضافة إلى الاستيلاء على ما يُرسله ذووهم إليهم. ولا توجد إحصاءات رسمية توثق حالات القتل في الجيش في العمليات العسكرية أو في الثكنات والتدريبات بسبب المضايقات. ووفقاً لعدد من منظمات حقوق الإنسان، إنّ عدم وجود إحصاءات لا يعني تناقص أعداد القتل، ولا يدل على تحسّن في حياة المجند والقضاء على التقاليد السيئة المتبعة وإنهاء مضايقة المجندين وإهانتهم وإذلالهم.
وذكر "راديو سفوبودا" (الحرية)، أنّ الإحصاءات حول حالات العنف في القوات المسلحة الروسية، تتجاهل وتتستر على معظم الحوادث، ولا تأخذ بالاعتبار سوى تلك التي أدت إلى فتح قضايا جنائية، وهي 939 قضية في عام 2014، و901 قضية في عام 2015، فيما لا توجد إحصاءات للأعوام اللاحقة، بسبب القوانين الجديدة.
ومن الواضح أنّ ما يتسرّب عن حوادث الإهانات التي يتعرّض لها المجندون في قطعات الجيش الروسي سيؤدي إلى عزوف الشباب عن الخدمة في المؤسسة العسكرية، وتراجع أعضاء الجيش كثيراً بسبب الأزمة الديمغرافية التي تعيشها روسيا منذ سنوات طويلة، ما يعطل طموحات الكرملين الراغب بأداء دور عالمي أكبر. فالعامل البشري لا يمكن إهماله في العمليات العسكرية الداخلية والخارجية، كذلك لا يمكن تعويض النقص في "الجيش الأحمر"، رابع أكبر جيش في العالم والبالغ عدده 1.9 مليون عسكري، عبر متعاقدين تسعى وزارة الدفاع إلى جذبهم.
وبعد حادثة شمس الدينوف، سربت صحيفة "إم كا" الروسية واسعة الانتشار، معلومات تفيد بأنّ الوزارة ستقبل متعاقدين أجانب تحت سن 30 عاماً، بشرط إقامتهم في شكل نظامي في موسكو وتمتعهم بسجل عدلي نظيف، مع إتقانهم اللغة الروسية. ونقلت الصحيفة عن مصادرها أنّ التوجهات الجديدة تقضي بتحسين ظروف الخدمة والرواتب ومنح تسهيلات من أجل الحصول على سكن ملائم.