وتعكس قصة الفتى إبراهيم، إلى حدٍّ كبير، حالة التردد التي يتسم بها الموقف التونسي الرسمي. غادر الطفل في عام 2013 الأراضي التونسية مع عائلته التي توجهت إلى سورية، ولم يكن قد تجاوز بعد التاسعة من عمره. خلال العام الحالي، قتل والداه وشقيقتاه في غارة جوية على قرية الباغوز (ريف دير الزور)، التي ظلت من أواخر معاقل تنظيم "داعش" شرق سورية، قبل طرده منها بداية الربيع الماضي، ليبقى الطفل وحيداً في مخيم الهول للنازحين الهاربين أو المعتقلين من عائلات تنظيم "داعش"، قبل إيداعه سجن الحسكة، كقاصرٍ (15 عاماً). وقال "مرصد الحقوق والحريات" في تونس، في بيان، إنه "على الرغم من التواصل منذ سنوات مع السلطات الرسمية، إلا أن الدولة التونسية تصرّ على ترك هؤلاء الأطفال يلاقون المصير المجهول الذي لم يختاروه".
وكانت تونس قد بدأت منذ فترة باستعادة شبابها الذين التحقوا خلال السنوات الماضية بالتنظيمات المتشددة، خارج الحدود. وفي عام 2016 تحدثت وزارة الداخلية عن عودة نحو 800 من هؤلاء إلى البلاد، فيما تعمل لجنة عليا حالياً، تشارك فيها وزارتا الخارجية والداخلية وغيرهما من المؤسسات، لضبط عددهم الدقيق.
المؤكد أن هذه المغامرة البائسة التي أقدم عليها المئات من الشباب التونسي قد أخذت بالتراجع والانحسار، مقارنةً بالسنوات التي مضت، عندما نُصبت الخيام الدعوية في قلب العاصمة تونس، وتمّت السيطرة على عشرات المساجد والمنابر، وبدت ملامح البلد وكأنها آخذة بالتغير بوتيرة متسارعة، حتى ظنّ البعض أن الصراع قد حُسم لمصلحة هؤلاء الذين ظهروا فجأة، وقرروا التمرد على الدولة والمجتمع والتاريخ والجغرافيا.
قاوم التونسيون الظاهرة، فتحول المتشددون إلى غرباء بين أهلهم. وعندما أعلنت "دولة الخلافة" في العراق وسورية، قرر الكثير منهم التوجه للانضمام إلى هذه "الدولة" المزعومة، ظناً منهم أن هذه "الهجرة" أصبحت واجبة دينياً، فانطلقوا نحو الوهم الكبير.
قتل المئات من التونسيين جراء القصف الذي استهدف الأراضي التي سيطر عليها "داعش" في سورية والعراق، كذلك فإنهم اختلفوا وانقسموا فيما بينهم مرات عدة، نتيجة انقسام الجماعات الإسلامية المتشددة، حتى أنهم لم يتوانوا عن تصفية بعضهم البعض، إلى أن حوصروا دولياً، وتحول العديد منهم إلى مرتزقة خدمة لدول وأطراف متنازعة تتصارع على الثروات والمصالح والنفوذ. وكان أهمَّ ضحايا هذه المغامرة المجنونة عددٌ كبير من النساء والأطفال التونسيين، الذين تشردوا وقاسوا الأمرين بعد انهيار وهم "دولة الخلافة". وفي ليبيا على سبيل المثال، لا يزال الأطفال التونسيون من أبناء "الدواعش" محاصرين، ينتظرون وقفاً لإطلاق النار لإنقاذهم من الجحيم.
وعندما بدأ الحديث في تونس عن ضرورة الاستعداد لاحتواء العائدين من "الدواعش" في إطار خطة استباقية، اعتبر كثيرون هذه الدعوة خيانة، مطالبين بنزع الجنسية عن المواطنين الذين خرجوا للقتال خارج البلاد إلى جانب التنظيمات الإرهابية، ورافضين عودة هؤلاء نهائياً، مهما كانت الاعتبارات والدوافع. هذه المسألة وُظِّفَت كذلك في إطار الصراع السياسي الداخلي بين حركة "النهضة" وخصومها، ما جعلها تحمل الكثير من الحساسية، ودفع السلطات الرسمية إلى تجنب الخوض فيها علناً. وأصرّ المعترضون على عودة المتطرفين، على عدم الأخذ بالاعتبار قرارات مجلس الأمن الدولي، وهياكل الأمم المتحدة، في هذا الشأن، داعين كذلك إلى عدم الاستجابة لضغوط الدول التي تعتقل الإرهابيين في سجونها، وتطالب بترحيلهم الى بلدانهم الأم.
اليوم، تبدلت الأوضاع وموازين القوى، ووجدت السلطات التونسية نفسها مجبرة على استعادة وتسلُّم العديد من رعاياها الذين قاتلوا مع الجماعات المتطرفة، رسمياً وعلناً، بعدما كانت تقوم بذلك بعيداً عن الأضواء. فالحكومة التونسية أصبحت مجبرة على التفاعل مع الأجهزة الأممية، وغير قادرة بعد الآن على رفض استقبال متشددين يحملون الجنسية التونسية.
هكذا، أصبحت استعادة هؤلاء جزءاً من الاستراتيجية الوطنية لمقاومة الإرهاب التي تبنتها الحكومة التونسية، وشرعت منذ مدة في تنفيذها. وعندما يجري تسلُّم أي واحد من هؤلاء، سواءٌ أكانوا نساءً أم رجالاً، باستثناء الأطفال الذين لم يتجاوزوا 13 عاماً، يُوقفون على الفور، ويُحقَّق معهم. بعد ذلك، يُعرَض الذين حملوا السلاح وتورطوا في العنف على المؤسسة القضائية، لمحاكمتهم على الجرائم التي ارتكبوها. أما من لم تثبت مشاركتهم في عمليات قتالية، فيُخضَعون للإقامة الجبرية أو المراقبة الأمنية اللصيقة لفترات متفاوتة.
وشرعت المؤسسة السجنية في تونس، منذ مدة، في تنفيذ برامج تأهيل مختلفة تهدف إلى إعادة دمج المتطرفين في المجتمع، بعد إخضاعهم لعملية إصلاح فكري وتربوي واجتماعي، لجعلهم عناصر غير خطيرة على الدولة والمجتمع. وتجري هذه العملية بالتعاون مع عددٍ من منظمات المجتمع المدني، وبتمويل من مؤسسات دولية. ومن هذه المبادرات، برنامج "تواصل" الذي ساهم في تمويله برنامج الأمم المتحدة للتنمية، الموجه إلى المتهمين بالتطرف العنيف.
لا يزال الطريق طويلاً في هذا الاتجاه، بحسب ما يؤكد المسؤولون التونسيون. فظاهرة التطرف العنيف لا تزال قائمة في البلاد، رغم تراجعها الملحوظ. ولا يزال العديد من المتطرفين يتحصنون بالجبال التونسية، خصوصاً في جبال الشعانبي وسمامة وغيرها. ولا يمرّ أسبوع إلا وتعلن السلطات الأمنية اعتقال عناصر خطيرين تابعين للخلايا النائمة التي تختبئ في المنازل والقرى. هؤلاء، يصطادون الفرص للقيام بعمليات قد تحدث بعض الأضرار، مثلما حصل يوم الخميس الأسود الذي تزامن فيه دخول الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي إلى المستشفى في حالة خطيرة، مع إقدام متشددين على تفجير نفسيهما في مكانين مختلفين بقلب العاصمة.
يتزامن تسلُّم بعض المتشددين مع حالة استقرار أمني ملحوظ تشهدها تونس، جعل الموسم السياحي ينتهي من دون أحداث مؤلمة. هذا الأمر أعاد ثقة الدول الغربية بتونس، وبقدرة مؤسساتها على حماية ضيوفها والدفاع عن مواطنيها. لكن المعركة لم تنته، وما لجوء فلول المسلحين إلى التجمع في جبل سمامة أخيراً، استعداداً للقيام بعمليات مفاجئة، إلا دليل على أن الوضع لا يزال غير مطمئن، وفي الآن نفسه يعتبر مؤشراً على يقظة الأمنيين والعسكريين للتصدي بقوة لكل من يحاول المساس بالأمن القومي.
لن تستطيع تونس التهرب من الضغوط التي تمارسها بعض الدول في مسألة عودة المتورطين في ملفات الإرهاب. وهناك محادثات تجري مع جهات رسمية تونسية لمساعدتها على بناء سجون تكون قادرة على استقبال السجناء المفترضين الخطرين، نظراً للهشاشة التي ترصد في هذا المجال، ويجري العمل أيضاً على الرفع من درجات التأمين والحماية. وفي هذا الصدد، تطالب تونس بمراعاة الوضع الهش لسجونها. على الرغم من ذلك، فهي لا تستطيع أن تتجاهل قريباً هذا الملف الخطير، الذي أصبح اليوم ضاغطاً وأكثر إلحاحاً، وقد يصبح من الأولويات التونسية خلال الفترة القريبة المقبلة.