جاء قرار المحكمة العليا في البرازيل، بإطلاق سراح رئيس البلاد الأسبق، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ليشكل صفعة قوية لمعسكر اليمين المتشدد في البلد، وعلى رأسه الرئيس المثير للجدل، جايير بولسونارو، الذي لم يتردد في الطلب من الشعب "عدم الاهتمام بأخبار لولا الحقير".
دا سيلفا، أو لولا كما يعرف اختصاراً، صاحب الشعبية الكبيرة في الشارع البرازيلي، وجد بخروجه نفسه وسط حشد من أنصاره في الشارع، بعد سلسلة طويلة من مرارات مما وصفها بـ"محاكمة سياسية" بعد اتهامات للرجل بـ"الفساد". واعتبر أنصار دا سيلفا خروجه من السجن بمثابة انتصار على ما يسمونه حملات منظمة تعرّض لها الرجل من قبل ما يعتبرونها قوى "ظلامية ورجعية". وتلقى لولا تصفيقاً حاداً من قبل المحتشدين حين أعاد إلى ذاكرتهم أنه سيواصل الكفاح حتى تثبت براءته. فخروجه من السجن اليوم لا يعني أن القضايا المرفوعة بحقه سقطت، بل هي مسألة تقنية تعني أنه خارج السجن ريثما تجري دراسة القضية بعد الاستئناف على الحكم.
ويصرّ دا سيلفا على أنه بريء من التهم التي وُجهت إليه، وعلى أساسها جرت محاكمته ابتدائياً.
وعن ذلك، قال بولسونارو إنّ دي سيلفا "حرّ مؤقتاً، ولكنه مدان". وأضاف: "إننا نمثل غالبية، نحن محبي الحرية والخير، لا يمكننا ارتكاب أخطاء"، متابعاً أنّه "حين يفقد الجنود قيادتهم ووجهتهم، فإنّهم يطلقون النار في كل اتجاه، بما ذلك على أصدقائهم".
في المقابل، تعهد دا سيلفا، الذي يُعَدّ من الشخصيات التاريخية لليسار البرازيلي، أمام الآلاف من أنصاره بـ"مواصلة النضال"، وقال: "أريد مواصلة النضال لتحسين حياة البرازيليين".
وكانت المحكمة العليا في البلد قد أقرت بأنه لا يمكن حبس الأشخاص إذا كانت لديهم فرصة لاستئناف الأحكام الصادرة بحقهم، وهو الأمر الذي عوّل عليه دا سيلفا في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد أن بدأت المحكمة العليا مداولات قضية حبسه ونحو 5 آلاف آخرين دون التزام نصوص القانون الذي يتيح لهم البقاء طلقاء في حال استئناف الأحكام.
وكان دا سيلفا يمضي عقوبة بالسجن ثماني سنوات وعشرة أشهر بتهمة الفساد. وأوقف في إبريل/ نيسان 2018 بعدما أثبتت محكمة الاستئناف الحكم، وقبل استنفاد وسائل الطعن في الحكم أمام محاكم أعلى. وتوبع دا سيلفا بقضية فساد كبيرة زجّ فيها باسمه، فيما اعتبره هو مكيدة وانتقاماً منه لسياساته التي طبقها خلال فترة حكمه للبلد بين عام 2003 وعام 2010، وبالأخص تلك السياسات التقدمية التي انتهجت تطبيق العدالة الاجتماعية وتطوير اقتصاد البلد، ما جعله يكتسح شعبية غير مسبوقة لرئيس برازيلي في الشارع، إضافة إلى سياسات خارجية اتسمت بالاستقلالية عن التبعية لواشنطن، وبالأخص في قضايا تتعلق بالعالم الثالث والقضية الفلسطينية.
ويعتبر خروج دا سيلفا من السجن صفعة قوية أيضاً لسيرجيو مورو، القاضي السابق الذي أصدر الحكم عليه في محكمة البداية في يوليو/ تموز 2017، وعيّنه فيما بعد بولسونارو وزيراً للعدل.
دا سيلفا، المعروف بين أوساط مؤيديه بأنه نصير الفقراء والطبقات الدنيا ومكافح ضد الفساد والرشى والمحسوبية، رغم ذلك وجهت إليه تهم بأنه "تلقى رشى من شركات عديدة"، بما فيها شركة هندسة لبناء شقق سكنية على الواجهات البحرية، وهو ما ظل ينفيه الرجل منذ أن سيّر اليمين مظاهرات بحقه انتهت بالدفع به من الرئاسة إلى المعتقل.
وشهدت شوارع البرازيل الخميس مظاهرات عدة تأييداً لدا سيلفا، في مؤشر على أن شعبيته ما زالت قوية بين البرازيليين الذين عبّر كثيرون منهم عن امتعاضهم من سياسات الرئيس الحالي، بولسونارو، بعد شيوع أنباء عن إمكانية إطلاقه أمس الجمعة، وهو ما جرى عملياً.
وصوتت المحكمة العليا الخميس لتغيير قانون كان يقضي بحبس المتهم إذا ما خسر الاستئناف الأول، وأن يستمروا في البقاء خارج أسوار السجن حتى يخسر كل مستويات التقاضي والاستئناف، وهو ما مهد الطريق لإطلاق دا سيلفا أمس.
واعتبر حزب "العمال" في البرازيل ما جرى من تغيير في القانون "خطوة أخرى تقوي ديمقراطيتنا، في وقت تهدد فيه من قوى اليمين المتطرف في الحكومة الحالية".
ومن المفهوم أن خروج لولا مساء أمس الجمعة من سجنه يثير حنق معسكر اليمين المتشدد في البرازيل، حيث يعتبر الرجل حتى اليوم "بطل الشعب" بنظر الكثيرين من مؤيديه في بلد يذكر له كيف استطاع إنقاذ الاقتصاد من الانهيار والتفت كثيراً إلى محاولة تطبيق العدالة الاجتماعية ومواجهة قاسية مع الشركات الكبرى التي لم تعجبها سياساته المنحازة إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة في البلد، ومواجهة مشاريع ضخمة في غابات الأمازون.
ولا يتوقع أيضاً أن يسكت الشارع الآخر المؤيد للرئيس اليميني الحالي، حيث يتوقع أن يخرج هؤلاء إلى الشارع، وهو ما يمكن أيضاً أن يدفع بالبرازيل إلى وضع شبيه بالحالة التي تعيشها دول عديدة في أميركا اللاتينية من انقسامات واضحة، يتواجه فيها شارعان يؤيد كل منهما معسكراً سياسياً معيناً.
فالمزعج بالنسبة إلى معسكر اليمين المتشدد في البرازيل، أن قضية الاستئناف يمكن أن تطول لسنوات عديدة، وهو ما يعني أن وجود دا سيلفا خارج السجن، وإن كان لا يستطيع الترشح لمناصب رسمية، سيمكنه من أن يصبح نقطة تجمّع لعديد القوى السياسية والمجتمعية المعارضة لتبني البرازيل اتجاهات يمينية متطرفة كما تفعل الطبقة الحاكمة اليوم بزعامة "يائيير" بولسونارو.
وتسمية يائيير هذه يطلقها بعض عرب البرازيل، والفلسطينيون تحديداً، للإشارة إلى دعم الرجل وتأييده للاحتلال الإسرائيلي، وعلاقته بالمعسكر الصهيوني المتغلغل في صفوف حكومته وتوجيه سياساته الخارجية والتضييق على بعض تحركاتهم الداخلية وعودة ما يشبه "العنصرية تجاه السود البرازيليين"، بحسب ما يصف أحد النشطاء الفلسطينيين في برازيليا. ولوحظ أمس ارتداء بعض مؤيدي دا سيلفا للشال والعلم الفلسطيني في تظاهرة استقباله، ما عُدّ رسالة واضحة للقوى اليمنية المتشددة.