وبدأت الساحة المطلة على جادة الشانزيليزيه تمتلئ شيئا فشيئا بالمتظاهرين، في انتظار انطلاقة المسيرة التي ستجوب شوارع كثيرة في باريس قبل أن تصل إلى "ساحة دونفير روشرو"، في نحو الخامسة بعد الظهر.
وكما في التظاهرات السابقة، كانت أغلبية المشاركين من الأقاليم، مع قلة من باريس وضواحيها، وهو ما كانت تؤكده أعلام الأقاليم وبعض لكنات المتظاهرين.
ولكن رغم كل هذه الاختلافات البسيطة، فقد كان يجمعهم كثير من الأشياء، منها السخط على الرئيس إيمانويل ماكرون ووزير داخليته كريستوف كاستانير، وهو ما أكده متظاهرون تحدّثوا لـ"العربي الجديد".
ولعل المتابع لفرنسا من خلال وسائل الإعلام يفاجأ بالصدى الذي عرفه الحوار الوطني الكبير. وعلى العكس من ذلك، يبدو أن هذا الحوار الوطني لا يحمل أي صدى هنا بين المتظاهرين، فقد رفضوه فور الإعلان عنه ولم يغيروا رأيهم فيه، كما أن من غيّر رأيه لم يعد يشارك في هذا الحراك.
ويتحدث بعض هؤلاء عن تكرار الشعارات الأولى نفسها، وكأن لا أمل ينتظر من نتائج وتوصيات الحوار الوطني. ويعبّر ميشيل من منطقة بروتاني، أحد المشاركين في التظاهرة الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، عن ذلك بالقول: "ماكرون لا يفعل، الآن، في خرجاته الإعلامية، سوى محاورة نفسه".
أما خديجة، وهي فرنسية من أصول عربية، والتي جاءت من منطقة 93، ضاحية باريس، فتصرّ على أنها لم تَرَ أي عدالة ضريبية ولا أي رغبة للرئيس في ديموقراطية مباشرة يطالب بها المتظاهرون.
والطريف أن الإعلانات واللافتات الكبيرة قليلة في التظاهرة، فقد تحولت كل سترة صفراء إلى بيان مَطالب أو موقف من ماكرون، فيما البعض الآخر يسجل تواريخ المشاركة في جولات حراك السترات الصفراء، التي انطلقت قبل أكثر من ثلاثة أشهر. ويمكن لمن يشارك في التظاهرة أن يقرأ ما كُتب على السترات الصفراء، ليكتشف أن ما كانت هذه الحركة تطالب به، أثناء انبثاقها، لا يزال هو ذاته، ولم يتغير، رغم ما تعلنه الحكومة وبعض أحزاب المعارضة، خاصة "الجمهوريون"، عن أن الوقت الآن هو وقت العودة إلى البيت.
أحد هؤلاء، واسمه جورج، قادم من ضاحية باريس، وقد كتب على سترته أنه "متقاعد"، يتحدث في مكبر الصوت، محذرًا من أن "مواصلة ماكرون استنزاف آبائنا عن طريق ضريبة المساهمة الاجتماعية المعمَّمَة سيجعل آباءنا يتحولون إلى مشرَّدين".
ومع أصداء الحوار الوطني الكبير، لا يزال يصرّ المتظاهرون في شوارع فرنسا على أن ثمة فريقين غير متصالَحَين، ولا يعرف أحدٌ كيف سيلتقيان. ذلك ما يقوله علي القادم من مدينة بوردو، للمرة الثانية في شهرين، على سبيل المثال، بينما يؤكد جورج على أن كل الحاضرين إلى مثل هذه التظاهرات سيواصلون على هذا المنوال "حتى ولو بعد 2023".
ويضيف جورج: "كيف لنا أن نتحاور مع هذا الرجل (يقصد الرئيس ماكرون)، وهو يقول، قبل أيام، مطالباً بوقف التظاهرات: الذين يشاركون فيها إما هم سيئون وإمّا متواطئون مع الأسوأ".
ولم تكن الأجواء الباردة نسبيًا سبباً في قلة عدد المتظاهرين، فقد انطلقت التظاهرة بنحو 2000 شخص على أكبر تقدير، ولكن، كما يحاول علي، القادم من بوردو، والتي تشهد تظاهرات بدورها منذ بداية الحراك، إقناع نفسه؛ "فلا يمكن لجميع المتظاهرين أن يواظبوا على المشاركة، لديهم مسؤوليات، ثم إن السفر مُكلفٌ، وليس حالنا كما هو حال قوى الأمن، التي تؤدي عملها ثم تتلقى تعويضات، ومع ذلك تتحدث نقاباتها عن الإنهاك والتعب". وتدخل زميلٌ له، قائلاً: "كلّما توقعت وسائل الإعلام المعادية لنا، في غالبيتها، انحسار التظاهرات، أثبت الحراك حيويته.."، وعاد علي ليشرح بأن حركة السترات الصفراء تتهيأ لتظاهرات حاشدة يومي 16 و17 من الشهر الجاري، وهي مواعيد تصادف دخول الحراك في شهره الرابع، وأيضًا الانتهاء من الحوار الوطني الكبير.
وتجدر الإشارة إلى أن غالبية المتظاهرين تحدوهم رغبة في الحفاظ على سلمية التظاهر، فعلى الرغم من العنف اللفظي الظاهر في الشعارات تجاه ماكرون، ووزير داخليته، وأيضًا ضد عنف قوى الأمن، فإنها لا تريد مجابهة الشرطة والالتحام معها. إلا أن عشرات من الشباب داخل التظاهرة لا يخفون رغبتهم في الاشتباك، وقد حدث الأمر أكثر من مرة، حين حاولوا رفض المسار التي اتخذته التظاهرة واعتبروه مجحفاً ومُهيناً للمتظاهرين، وهو ما أعقبه حضور بوليسي كثيف وغازات مسيلة للدموع.
لا تريد خديجة، الممرضة والأم لطفلتين، والتي حضرت 7 مرات في هذه التظاهرات، أن تعود إلى البيت مصابة أو مفقوءة العين، كما حال زميلها جيروم رودريغيز، الذي تحول إلى وجه شهير من وجوه الحراك. وتقول: "موقف ماكرون واضحٌ، كلما اشتد عليه الضغط احتمى بالشرطة. ولهذا فهو منطقي حين يمنح قوى الأمن كل الصلاحيات، ضد المتظاهرين، الذين يزعم أنهم يأتون من أجل ممارسة العنف".
تتواصل التظاهرة في جو سلمي، على العموم، ولكن يخشى أن تنتهي ببعض العنف أثناء فضها في السادسة مساء.
وهذا العنف لا يريده كثير من المتظاهرين، الذين اكتشفوا أن انحسار بعض الالتفاف الشعبي من حولهم، مردّه إلى العنف الذي يشوب بعض التظاهرات، وليس إلى وعود ماكرون ولا إلى هداياه.