وما يعزز المخاوف التونسية تبخّر كل الآمال بتسوية سياسية تنهي الأزمة الليبية، بعدما سعت، طيلة السنوات الماضية، لإقناع المجتمع الدولي عموماً وجيرانها العرب والأوروبيين لحل الأزمة الليبية سلمياً وليبياً، واعتقدت أنها اقتربت من ذلك خلال القمة العربية التي استضافتها أخيراً، إلى أن فوجئت بحرب اللواء الليبي خليفة حفتر على طرابلس، فيما لم يعد دعم حفتر من مصر والسعودية والإمارات وفرنسا وغيرها سرّاً، بينما فقدت تونس حليفاً قوياً في مسعاها، الجزائر المنشغلة بتطوراتها الداخلية. وعلى الرغم من ذلك، فقد دعت وزارة الخارجية الجزائرية منذ أيام إلى عقد اجتماع ثلاثي في أقرب الآجال، يضم وزراء خارجية كل من الجزائر وتونس ومصر لبحث السبل الكفيلة لتجاوز الأزمة الحالية في ليبيا. وبرز أمس الجمعة الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي بحفتر، ودعوته إياه إلى "وقف فوري لإطلاق النار في ليبيا وحقن دماء الليبيين". وشدد الجهيناوي، بحسب بيان للخارجية التونسية، على "ضرورة استكمال بقية مراحل المسار السياسي الجاري تحت رعاية الأمم المتحدة في أقرب الآجال"، معتبرا أنه لا يمكن التوصل إلى تسوية للأزمة الليبية إلا بالحوار والتفاوض. وأكد "أهمية العمل على إيجاد أرضية توافق بين مختلف أطراف الاقتتال الدائر حالياً في طرابلس وعدد من المناطق الليبية الأخرى، تفضي إلى وضع الآليات الكفيلة بحل الخلافات بين الليبيين بعيداً عن لغة السلاح". من جهته، أكد حفتر، بحسب البيان، "حرصه على إنهاء العمل العسكري في عدد من مناطق ليبيا في أقرب الأوقات". وزعم أن "قواته بصدد محاربة أطراف مسلحة غير نظامية تسيطر على عدة مناطق في العاصمة دون وجه حق، وأنها حريصة على حقن الدماء والحفاظ على أرواح المدنيين".
ويتحدث المسؤولون التونسيون منذ سنوات، عن تبعات الحرب الليبية عليهم. وعام 2015، قال الرئيس الباجي قائد السبسي، في كلمة خلال قمة مجموعة السبع الكبار في ألمانيا، إنّ "الوضع المتأزم في ليبيا كبّد تونس خسائر بقيمة 5.7 مليارات دولار ما بين 2011 و2014، كما ضاعف من الخطر الإرهابي في تونس". وتؤكد أرقام البنك الدولي أن تونس تخسر نحو 800 مليون دولار سنوياً كتأثير مباشر للأزمة الليبية على الطلب وآفاق الاستثمار. ووفقاً لدراسة أعدّها البنك الدولي، فإن الأزمة الليبية في 2011 فاقمت من التجارة الموازية في البلدين، نظراً لعدم إحكام السيطرة على المناطق الحدودية بينهما. وأوضح البنك الدولي أن تهريب البنزين من ليبيا نحو تونس أدى إلى خسارة 500 مليون ليتر سنوياً، ما تسبب بخسارة للبلدين، على مستوى الميزانية في ليبيا وعلى مستوى المداخيل الضرائبية لتونس. وتراجعت التبادلات التجارية الثنائية بين تونس وليبيا بأكثر من 75 في المائة، نتيجة التوقف الكامل لأنشطة أكثر من مائة مؤسسة تونسية كانت تعمل بصفة كلية مع السوق الليبية. كما قامت أكثر من ألف شركة بإعادة برامجها التصديرية والإنتاجية، التي كانت موجهة في العادة نحو ليبيا بسبب الأوضاع الأمنية.
ولا تقدّم هذه الأرقام سوى تقدير أوّلي لحجم الخسائر التونسية من جراء الأزمة الليبية، لأن عدداً من الضربات الإرهابية الكبيرة التي تلقّتها تونس، وأضرّت بسياحتها واستقرارها، جاء من عناصر تلقت تدريباتها في ليبيا، ما دفع تونس إلى الاستثمار بقوة في تأمين الحدود وضاعفت من ميزانياتها الأمنية، بعدما كان استثمارها الأساسي على مدى عقود يذهب إلى قطاعات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، ما خلق أزمات كبيرة في هذه المجالات، وقاد إلى توترات غير مسبوقة على المستوى الداخلي، أثّرت على الاستقرار السياسي وقادت إلى تغييرات حكومية متتالية وتحالفات جديدة في كل مرة.
وتعليقاً على ذلك، لفت المحلل السياسي المختص في الشأن الليبي الأستاذ الجامعي منتصر الشريف، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن ليبيا تشهد منذ سنوات اضطرابات أمنية، لكن الوضع تطور أخيراً مع استخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات في القتال، وهو ما قد يؤدي إلى العديد من الإشكاليات، ولا سيما في ظل سقوط ضحايا من المدنيين والعديد من الجرحى، ما ينبئ بأزمة إنسانية. وأوضح أنه في ظل تطور الوضع، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى نزوح الليبيين نحو بلدان الجوار هرباً من الحرب، وتونس ستكون أول بلد يتأثر بذلك، مشيراً إلى أنّ الليبيين عادة ما يتوجهون إلى تونس عند تصاعد الأزمة، وتونس لا يمكنها أن تعوّل كثيراً على الجار الجزائري وعلى الجيش الجزائري لحماية الحدود الغربية، باعتبار الأزمة الحالية التي تمرّ بها الجزائر، والجهود الأمنية للأخيرة تتركز على حفظ الأمن الداخلي أولاً.
وأكد الشريف أن الجيش التونسي سيجد نفسه مشتتاً بين الجبهة الشرقية من جهة ليبيا، والجبهة الغربية أي الحدود مع الجزائر من جهة أخرى، في حين أن الجيش التونسي تمكّن، منذ الثورة، من تركيز جهوده فقط على الجبهة الشرقية، باعتبار أن هناك وجوداً كثيفاً للجيش الجزائري، الذي كان يشكل درعاً ودعماً للجيش التونسي وهو ما تم فقدانه حالياً. وشدد على أن الحلول لا يمكن أن تكون إلا ليبية - ليبية، على الرغم من أن الأمم المتحدة بصدد مناقشة مشروع قرار اقترحته بريطانيا يتضمن نقطة تُعتبر في الحقيقة إساءة كبيرة للشعب الليبي، وهي طلب الدعم من الدول التي لديها ضغط على طرابلس لممارسة دورها، وهو دليل على أن الأزمة في ليبيا ليست ليبية بل هي أزمة دولية بأيادٍ ليبية، مشيراً إلى أن حفتر تحركه مصر وحلفاؤها، ومعتبراً أن ليبيا حالياً في صراع بين عدة أقطاب.
من جهته، قال المحلل المختص في الشأن الليبي مصطفى عبد الكبير، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن السؤال الذي يُطرح اليوم هو ماذا وراء التصعيد المفاجئ في استعمال القوة، والارتفاع الكبير في استعمال السلاح والصواريخ في مناطق سكنية، وهو ما تسبّب في استياء وقلق الليبيين. وأشار إلى أن الجهة الجنوبية تشهد نزوح السكان بسبب صوت القصف والانفجارات التي تهز المنطقة، مشيراً إلى أن الليبيين يعيشون قلقاً كبيراً، وإذا تواصلت المعارك بالنسق نفسه فستكون مدمرة وستفجّر حرباً واسعة، وبالتالي لا حلول سوى العودة إلى طاولة المفاوضات والتهدئة لأن العاصمة الليبية لا تتحمل المزيد من الدمار.
هذه التوترات المتصاعدة دفعت المسؤولين التونسيين إلى التوجه إلى الحدود مباشرة، وتفقد جاهزية قواتهم لكل التطورات المحتملة. واستبعد وزير الداخلية هشام الفوراتي الثلاثاء الماضي، أن "يتكرر مشهد 2011 في تونس في ظل المؤشرات الحالية". لكنه أكد، خلال زيارته المراكز المتقدمة على الحدود، أن الوحدات الأمنية "طوّرت خطتها ورفعت درجات الأهبة العملياتية في تنسيق وتناغم تام بين مختلف الأسلاك الأمنية والعسكرية"، مضيفاً أن "الحيطة والحذر واجبان في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به ليبيا، وخصوصاً في ظل التداعيات الممكنة، والمتمثلة أساساً في إمكانية تسلل عناصر إرهابية بطرق مختلفة، ومنها اعتماد جوازات سفر مزوّرة". ودعا الفوراتي إلى "التحرّي التام في هوية المسافرين واعتماد إجراءات تفتيش للسيارات في المعبر الحدودي برأس جدير، الذي يشهد نسقاً عادياً في الحركة حالياً مع رفع درجة اليقظة والانتباه والاستنفار".
وبدأت تونس تشهد مشاكل على حدودها، إذ حاولت مجموعتان مسلحتان مؤلفتان من أشخاص أوروبيين، الدخول إلى تونس منذ أيام، وفق تأكيد وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي. وقال الزبيدي إنّ "كلّ الحدود البرية والمجال الجوي والبحري مؤمنة بالرادارات وأجهزة المراقبة، وأن الوضع مستقرّ، ومختلف الوحدات في حالة تأهّب قصوى منذ أشهر، بالتنسيق مع وزارة الداخلية فيما يخصّ دعم وتعزيز الترتيبات الدفاعية العسكرية والأمنية على الحدود"، مشيراً إلى أنه تم وضع خطة لاحتمال استقبال أعداد من الليبيين الفارّين من الحرب في بلادهم في حال تطورت الأوضاع. وأكد سفير الاتحاد الأوروبي في تونس باتريس برغاميني، في تصريح صحافي الأربعاء الماضي، أنّ الأسلحة التي ضبطتها السلطات التونسية مع مجموعة أوروبيين كانوا على متن زورقين، تعود إلى البعثة.