وتُعد قوى "الحرية والتغيير" المحرك الرئيس للثورة السودانية منذ 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والتي انتهت بالإطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير وحزب "المؤتمر الوطني"، بعد 30 سنة من الحكم، بينما تشكل المجلس العسكري الانتقالي، الذي أطاح بالبشير، في 11 إبريل/ نيسان الماضي، بغالبية من ضباط الجيش السوداني ومشاركة من قوات نظامية أخرى. وبقيت قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المدعومة باعتصام شعبي في محيط قيادة الجيش، وسط العاصمة الخرطوم، وباعتصامات أخرى في الولايات، تضغط على المجلس العسكري لتسليم مقاليد الحكم إلى سلطة مدنية. ورفضت أي مساومة على موقفها القائل بعدم تبديل نظام عسكري بنظام عسكري جديد، فيما أراد المجلس الاحتفاظ ببعض السلطات لنفسه، اعتقاداً منه بأن التحديات الأمنية تستلزم ذلك، أو رغبة منه بتسلم الحكم. وللرد على تلك المخاوف الأمنية، وافقت قوى المعارضة على ترك كافة سلطات الأمن والدفاع للمجلس العسكري.
ومع بداية الأسبوع الحالي، بدأت قوى "إعلان الحرية والتغيير" حملة تصعيد جماهيري يومية، ووسعت مساحة الاعتصام الشعبي ليشمل مساحات وطرق وشوارع منطقة وسط الخرطوم، ما أدى إلى شلل شبه كامل وسط العاصمة ومناطق أخرى، مثل الخرطوم بحري وأم درمان. وتحت الضغط والتصعيد، اقترحت المعارضة مفاوضات حاسمة ومتواصلة لمدة 72 ساعة، وهو مقترح سرعان ما وافق عليه المجلس العسكري، ليعقد الطرفان، الإثنين الماضي، أولى الصفقات، عبر الاتفاق على كل مهام وصلاحيات أجهزة الحكم الانتقالي، الممثلة في المجلس السيادي ومجلس الوزراء والبرلمان الانتقالي.
وحققت قوى "إعلان الحرية والتغيير" مكسباً، بعدما وضعت صلاحيات رمزية محدودة، أقرب للتشريفية، للمجلس السيادي المقترح، وافق عليها المجلس العسكري بعد رفض استمر طويلاً، وهو أمر عول عليه للتسريع في عملية الوصول لنسب التمثيل داخل المجلس السيادي بين العسكريين والمدنيين. وقبيل انتهاء اليوم الثالث من المفاوضات، أمس الأربعاء، قالت مصادر قيادية في "الحرية والتغيير"، تحدثت مع "العربي الجديد"، إنه لم يعد مهماً لها عدد المدنيين داخل المجلس السيادي بعد تقليص صلاحياته، مشيرةً إلى أن المجلس سيتكون في الغالب من ممثلين عن أقاليم السودان المختلفة.
وإذا كانت قوى "إعلان الحرية والتغيير" لم تعد تأبه للمجلس السيادي، فإنها حصلت على مكسب أهم، عبر وضع كامل السلطات التنفيذية في يد مجلس الوزراء المدني الذي ستعينه، وفقاً لما اتفقت عليه مع المجلس العسكري، من الكفاءات الوطنية التي تمتاز بالخبرة المهنية والنزاهة. ويبدو أن صيغة حكومة كفاءات ستكون مرضية تماماً لكل الأطراف، خصوصاً أن العديد من الأحزاب الرئيسية في قوى "الحرية والتغيير" أعلنت زهدها بالمشاركة في الحكومة، بعضها من ناحية مبدئية لجهة التزام سابق بعدم المشاركة في حكومة إلا بعد إجراء انتخابات، وأخرى لأنها تريد التفرغ والاستعداد للانتخابات المقبلة، ولا تود أن تتحمل مسؤولية إخفاقات قد تحدث خلال الفترة الانتقالية.
ومن نقاط الخلاف التي تم حسمها تماماً، مدة الفترة الانتقالية. وكان المجلس العسكري قد اقترح، في أول يوم استلم فيه السلطة، أن تكون مدة الفترة سنتين فقط، تليها انتخابات حرة ونزيهة، على أن يتم تسليم الحكم لمن يختاره الشعب. لكن قوى "الحرية والتغيير"، واستناداً لتجارب سياسية سابقة في السودان تلت سقوط أنظمة عسكرية، وتحديداً في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، وإبريل/ نيسان 1985، اعتبرت أن قصر الفترة الانتقالية تسبب في إجهاض التجارب الديمقراطية، لذا اقترحت فترة انتقالية مدتها 4 سنوات تتمكن فيها، كما تقول قوى "إعلان الحرية والتغيير"، من إزالة وتصفية الدولة العميقة، التي أسس لها نظام البشير، حتى لا تتمكن من العودة مرة أخرى، كما حدث في مصر ودول أخرى من بلدان "الربيع العربي". ورأت قوى المعارضة أن نظام البشير، وطوال 30 سنة، كان في حالة حرب مع الأحزاب، ونجح بصورة نسبية في تدميرها عبر استخدام أدوات الدولة، وبالتالي اعتبرت هذه القوى أنها تحتاج إلى 4 سنوات لإعادة بناء نفسها، خصوصاً الحركات المتمردة التي لم تتعوّد على العمل المدني. وبعد شد وجذب، انتهى اتفاق الساعات الأخيرة، أول من أمس الثلاثاء، بالتوصل لصيغة وسطى بأن تكون مدة الفترة الانتقالية 3 سنوات، على أن تخصص الأشهر الستة الأولى من الفترة الانتقالية لملف وقف الحرب والوصول إلى السلام العادل والشامل والدائم في كل أرجاء السودان.
كذلك تم حسم موضوع نسبة المشاركة في المجلس التشريعي الانتقالي (البرلمان)، إذ تم تحديد عدد أعضائه بـ300 عضو، 67 في المائة منهم تختارهم قوى "إعلان الحرية والتغيير"، و33 في المائة من القوى السياسية التي لم تكن جزءاً من النظام السابق، على أن يتم تعيينهم بالتشاور بين قوى "الحرية والتغيير" والمجلس السيادي الانتقالي. وهذا يعني إمكانية بروز معارضة برلمانية خلال الفترة الانتقالية. لكن تسمية القوى المشاركة في تلك المعارضة ستكون صعبة، لأن غالبية القوى، خارج منظومة "الحرية والتغيير"، شاركت في النظام السابق.
وانتقد رئيس "حزب منبر السلام العادل"، الطيب مصطفى، النسبة البرلمانية التي تُركت لأحزاب لم تكن مشاركة في قوى "إعلان الحرية والتغيير"، معتبراً أن النسبة "ظالمة جداً ورسخت لديكتاتورية واستبداد، بعدما حازت الحرية والتغيير على أغلبية البرلمان، بل أعطت نفسها الحق في تعيين الآخرين". وأضاف مصطفى، الذي كان يشغل منصب رئيس لجنة الإعلام في البرلمان الذي تم حله، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "طوال التاريخ الحديث لم يتم إقرار فترة انتقالية لمدة 3 سنوات كاملة دون تفويض انتخابي"، معتبراً أن "قوى الحرية والتغيير تريد شرعنة ديكتاتورية جديدة، وتعمل على تحقيق أطماع ذاتية، في تناقض مع شعار الثورة الذي رفعته: حرية سلام وعدالة". واعتبر أن "تلك القوى ستدفع الثمن غالياً، ولن يمر الأمر من دون احتجاجات"، مشيراً إلى أن "الثورة السودانية لم تكن حكراً على الحرية والتغيير وحدها، وأن الشعب كله شارك فيها"، مبدياً أسفه الشديد "للإقصاء الذي بدأت تلك الأحزاب بممارسته".
لكن القيادي في قوى "إعلان الحرية والتغيير"، بابكر فيصل، أوضح، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الحديث عن إقصاء ما بعد نجاح الثورة، اتهام باطل لا يصدر إلا من بقايا النظام ومن شاركه في القمع والفساد ولم يتحرك عن كراسي السلطة ليتخذ موقفاً، وهو يرى دماء السودانيين تنهمر يوماً بعد يوم". وأضاف أن "تلك المجموعات لن يكون لها وجود فعلي في أجهزة الحكم الانتقالي"، موضحاً أن "أي جسم وطني كان جزءاً من التغيير لن يُقصى مطلقاً". وقال إن "الحرية والتغيير هو أعرض تحالف في تاريخ السودان، ويضم أكثر من 80 حزباً وهيئة نقابية، وهي الأجسام التي قاومت وناضلت حتى أنجزت الثورة". وأضاف أن "أهم الإيجابيات في الاتفاق بين المجلس العسكري والحرية والتغيير هي ضمان نقل الحكم من سلطة عسكرية إلى سلطة مدنية وحصول الحكومة على صلاحيات كاملة مقابل صلاحيات رمزية للمجلس السيادي"، مشيراً إلى أن "الحكومة الجديدة ستباشر على الفور إعادة بناء الدولة وإصلاح الاقتصاد وتصفية دولة البشير العميقة وإكمال بناء السلام مع الحركات المسلحة، وبعد ذلك تهيئة المناخ للانتخابات المقبلة". وكشف فيصل أن "غالبية أحزاب الحرية والتغيير قررت عدم المشاركة في الحكومة التنفيذية والاكتفاء بالمشاركة التشريعية لإبعاد الحكومة عن أي محاصصات حزبية"، نافياً "وجود أي خلاف بين مكونات قوى الحرية والتغيير حول المناصب"، ومؤكداً أنها "ستتوافق اليوم قبل الغد على رئيس وزراء ليشكل أول حكومة ما بعد الثورة".