نجحت الولايات المتحدة في فتح ثغرة بملف بأهمية النفط والغاز وربط استقرار لبنان به، بعدما أبلغ نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ساترفيلد، من التقاهم في بيروت أمس واليوم، أن إسرائيل وافقت على مفاوضاتٍ برعاية أممية لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل.
ومن شأن هذا التطور محاولة حشر "حزب الله"، في لحظة إقليمية دقيقة تمر بها المنطقة، وسط التصعيد العسكري بين واشنطن وطهران.
وكان ساترفيلد زار لبنان أمس الإثنين للمرة الثانية في غضون أيام، والتقى كلاً من رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس البرلمان نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل، وأبلغهم قبل مغادرته بيروت اليوم، إمكانية إجراء مفاوضات غير مباشرة، تشمل الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل.
وعلمت "العربي الجديد" أن ساترفيلد أكد خلال لقاءاته في بيروت أن الأرضية باتت جاهزة لإطلاق المفاوضات، وذلك وفق ثلاثة عناصر: أولاً برعاية أممية، وأن تتم على الحدود بينهما على الطريقة المتبعة حالياً في اللقاءات غير المباشرة التي تعقد بين الجيش اللبناني والإسرائيليين في الناقورة، ثانياً أن تكون بحضور أميركي، ثالثاً أن يتزامن فيها ملفا الترسيم البحري والترسيم البري، على أن تناقش بعض التفاصيل المهددة للمفاوضات لاحقاً.
ولم يتطرق ساترفيلد خلال لقاءاته إلى أي آلية للمفاوضات، خصوصاً أن الأخيرة ستكون على عاتق الأمم المتحدة، التي لها آلياتها، في إجرائها، وبالتالي لا يمكن وضع آلية مفاوضات بمعزل عنها، أو بما يتعارض مع القوانين الدولية.
وفي الساعات الماضية، وعلى غرار ما حصل عندما حط الموفد الأميركي في بيروت المرة الأولى قبل أسبوع، حاولت الأوساط اللبنانية إشاعة جو يفيد بأن لبنان هو من قدم تصوراً، وبالتالي حضر ساترفيلد ليسمعه وينقله إلى إسرائيل، لكن في الحقيقة، تقول مصادر لبنانية مطلعة على كواليس الاتصالات اللبنانية –الأميركية، أن القصة بدأت منذ أشهر، وفق تصور الإدارة الأميركية القائل بضرورة تعزيز دور الدولة اللبنانية على حساب الدور المتعاظم لـ"حزب الله"، والقائل أيضاً بضرورة تجريد "حزب الله" من أسلحته السياسية التي يتحجج بها للإبقاء على سلاحه وترسانته الصاروخية.
وفق هذا التصور، كانت نبرة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عندما زار بيروت قبل أسابيع عالية تجاه "حزب الله"، لكنه في المقابل تحدث بإيجابية عن ملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وإمكانية تحقيق خرق فيه. يومها، سمع بومبيو موقفاً لبنانياً يشير بالإجماع إلى رفض ما يُسمَّى بـ"خطة هوف"، نسبة إلى الموفد الأميركي فريديريك هوف، التي طرحت في العام 2012، والتي حاولت الترويج لتسوية تضمن إعطاء لبنان نحو 60 في المائة من المنطقة المتنازع عليها، وإبقاء 40 في المائة مجمدة.
الموقف اللبناني الموحد تجاه "خطة هوف" قابله تضارب واضح بين من يؤيد تزامن الترسيم البحري مع البري، وخصوصاً فريق رئيس الجمهورية ميشال عون، وبين من يرفض التزامن بينهما أو ربطهما ببعضهما البعض، وهو "حزب الله"، وبعض الأطراف المحسوبة عليه في الدولة، من منطلق إدراكه أن الربط بين الملفين يعني استهدافاً له وتجريداً لأوراقه. عند هذا الحد، طلبت الإدارة الأميركية موقفاً لبنانياً موحداً.
في الأسابيع الأخيرة تحول موقف "حزب الله"، أو على الأقل لم يعترض على طرح تزامن الترسيم البحري مع البري، وهو الموقف الذي أبلغه لبنان للإدارة الأميركية، نتيجة حاجة الدولة اللبنانية، وحكومة سعد الحريري الحالية، إلى حلحلة هذا الملف، بسبب الوضع الاقتصادي السيئ، والمخاوف من الأخطار المحدقة، وبالتزامن مع النقاش حول موازنة العام 2019، وسياسة التقشف التي تعد بها الحكومة.
وتشير مصادر حكومية إلى أنه "ثمة شبه إجماع سياسي لبناني على اعتبار الثروة النفطية الموعودة مخرجاً للحالة اللبنانية اقتصادياً، وبالتالي يجب التعجيل في استخراجها". ولذلك تم إطلاق دورة التراخيص الثانية للتنقيب عن النفط والغاز في خمسة بلوكات قبل أشهر، بعدما وقعت الحكومة العام الماضي عقوداً مع ثلاث شركات دولية للتنقيب عن النفط والغاز في بلوكين في المياه الإقليمية، وذلك على الرغم من التنازع اللبناني –الإسرائيلي على الحدود البحرية، وتحديداً على البلوك رقم 9.
وتقول المصادر إن مصلحة الجميع تقتضي إطلاق عملية ترسيم الحدود بحرياً، وهي مصلحة لبنانية في الدرجة الأولى، وثانياً مصلحة الشركات الدولية، إضافة إلى إسرائيل، ولكن ذلك يتطلب أيضاً استقراراً عسكرياً وسياسياً، على ضفاف البحر المتوسط، وإلا فإن الشركات لن تستثمر، وهي الحقيقة التي تدركها الحكومة اللبنانية، كما "حزب الله".
سياسياً، شكل حضور ساترفيلد إلى المنطقة وتنقله بين لبنان وإسرائيل، حدثاً سيؤسس للمرحلة المقبلة، وتحديداً لشكل الصراع بين إسرائيل ولبنان، وأيضاً لدور "حزب الله" في المنطقة انطلاقاً من سلاحه.
ونجحت الإدارة الأميركية في استغلال الظرف الاقتصادي في لبنان لجرّه إلى لعبة دبلوماسية، قد تشكل تحولاً مهماً، خصوصاً أنها الأولى منذ عقود بينهما، كما أنها تمهد لإغلاق آخر الملفات العالقة بينهما وتالياً إنهاء الصراع، وإن كان السلام بينهما غير مطروح، نظراً للإجماع اللبناني، تحت شعار "لبنان آخر دولة عربية تعقد سلاماً مع إسرائيل".
وبانتظار الأيام المقبلة والمساعي الأميركية، وبلورة انطلاقة المفاوضات، إلا أن الإعلان عنها يعني تحولاً وانتقالاً في لبنان من زمن تحكم "حزب الله" بملف الصراع مع إسرائيل، إلى عودة الدولة للتحكم، ولو دبلوماسياً، كما أنه سيعني فصلاً للمسارين اللبناني والسوري، وسيحمل الكثير من المفارقات، لعل من بينها التزامن بين زمن التهديد بالحرب بين طهران وواشنطن، وبين زمن المفاوضات بين بيروت وتل أبيب.
وربطاً أيضاً بطريقة تعاطي الإدارة الأميركية مع ملف "حزب الله"، وتقاطع إطلاق المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، مع النظرة الأميركية لكيفية تجريد "حزب الله" من أوراق القوة، فقد حضرت بقوة على طاولة لقاءات ساترفيلد في بيروت التوترات مع إيران، خصوصاً أنه شرح لمن التقاهم تطورات المنطقة، وأسمعهم كلاماً واضحاً متعلقاً بضرورة التزام سياسة النأي بالنفس في هذه المرحلة الدقيقة، وعدم السماح لـ"حزب الله" بجر لبنان إلى أي مأزق عسكري.