ودشّنت طهران، مطلع العام الثاني للانسحاب الأميركي من الملف النووي، سياسة "الردود المرحلية"، وردت تفاصيلها وطبيعتها في خطاب مطول للرئيس الإيراني حسن روحاني، وبيان تفصيلي للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أمس الأربعاء، مع منح مهلة للدول الخمس الأعضاء المتبقين في الاتفاق النووي، على مرحلتين، مدة كل منهما تصل إلى 60 يوماً للاستجابة إلى مطالبها المتمثلة في تمكين طهران من تحصيل منافعها الاقتصادية بموجب الاتفاق النووي، خصوصاً في المجالين النفطي والمصرفي اللذين يمثلان رئة الاقتصاد الإيراني. وعندما يذكر روحاني المجالين بالاسم، يكون قد وضع اليد على جرح اقتصاد إيران، الذي أصيب به جراء العقوبات الأميركية. كما أن للحديث في هذا المضمار دلالة بأن البلاد أصبحت تعاني كثيراً في هذا الصدد.
وفي رسائل، بعثها روحاني إلى نظرائه قادة الدول الخمس، بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا، أعلن أن بلاده تقوم في الوقت الراهن بتعليق تعهدين، كانت تنفذهما بموجب الاتفاق النووي، أي وقف إرسال ما يزيد على 300 كيلوغرام من إنتاج اليورانيوم، وكذلك ما يزيد على 1300 طن من إنتاج المياه الثقيلة، إلى الخارج. ومنح الدول الأعضاء مهلة 60 يوماً، مع التأكيد أنه في حال لم تستجب الدول الموقعة في الاتفاق خلال هذه المهلة لمطالب طهران، فإنها ستُقدم على تعليق تعهدين آخرين، هما أكثر أهمية وخطورة. والإجراءان اللذان قالت طهران إنها ستقدم عليهما في المرحلة الثانية من الردود التدريجية، أي بعد شهرين، هما رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 3.67 في المائة، وهو السقف الذي يحدده الاتفاق النووي، وتفعيل مفاعل "آراك". وتستند الإجراءات التي أعلنت طهران أنها اتخذتها أو لوحت بتبنيها لاحقاً تستند إلى البندين 26 و36 من الاتفاق النووي، اللذين ينصان على أنه "في حال عدم التزام أي طرف بتعهداته فيحق لإيران وقف تنفيذ التزاماتها جزئياً أو كلياً".
وبالنظر إلى أن واشنطن ألغت، يوم الجمعة الماضي، إعفاءين للتعاون النووي مع إيران في مجال نقل المياه الثقيلة للخارج وتبادل اليورانيوم المخصب بالكعكة الصفراء، فإنه لا تترتب خطورة كبيرة على الإجراءين الأولين اللذين اتخذتهما طهران أمس الأربعاء. لأنه بسبب العقوبات، التي قالت الإدارة الأميركية إنها ستفرضها على دول تتعاون مع إيران في المجالين المذكورين، لا تبقى إمكانية أمام طهران لبيع ما يزيد من إنتاجها للمياه الثقيلة واليورانيوم لدول حددها الاتفاق النووي بعينها (نص الاتفاق على تخزين المياه الثقيلة الزائدة في سلطنة عمان ومبادلة اليورانيوم المخصب بالكعكة الصفراء الخام مع روسيا). أما الخطورة، فتكمن في المرحلة الثانية من الردود الإيرانية المرحلية. ففي حال لم تلب الدول الخمس مطالب إيران، ونفذت الأخيرة هذه المرحلة، فإن هذا الأمر سيمثل تصعيداً كبيراً، إذ إن أحد أهم المكونات الفنية للاتفاق النووي، إن لم يكن الأهم، هو موضوع تخصيب اليورانيوم، الذي يحدد الاتفاق نسبته بمقدار 3.67 في المائة، وذلك بعد أن أوصلتها طهران قبل اتفاق 2015 إلى مستوى 20 في المائة. وفي حال أقدمت إيران بعد 60 يوماً على تدشين المرحلة الثانية، يمكن القول إن ذلك يفرغ الاتفاق النووي من مضمونه. ويبدو أن إيران قررت أن تتفادى الإعلان رسمياً عن انسحابها من الاتفاق النووي، على الرغم من أنها تتجه بعد بدء المرحلة الثانية من تعليق التعهدات نحو طي صفحة الاتفاق النووي. وفي السياق كان لرئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، تصريح لافت، قبل أيام، إذ قال إنه "لا ينبغي أن تنسحب الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أي معاهدة إعلامياً لأن أميركا تبحث عن مثل هذه الذرائع".
وثمة دلالات ورسائل في اتجاهات مختلفة، تنبعث من كشف طهران عن سياسة "الردود المرحلية"، لكنها حاولت أن توصلها في إطار "تطميني"، من خلال التأكيد مرات عدة على أنها لا تريد الانسحاب من الاتفاق النووي، وأن خطواتها هذه جاءت عملاً بحقوقها المندرجة في الاتفاق، وأنها لا تمثّل خروجاً منه. الرسالة الأولى "احتجاجية" بامتياز، وهي موجهة لشركاء الاتفاق النووي، الخمسة، وبالذات الأوروبيين منهم، بسبب ما تعتبره طهران عدم قيامهم بالتزاماتهم تجاه هذا الاتفاق، خلال العام الأخير، ليقول روحاني إن بلاده لجأت إلى هذه السياسة الجديدة بعد "خطوات غير كافية للأصدقاء"، وذلك على ما يبدو في الإشارة إلى الصينيين والروس أو "عجز الأوروبيين عن ترجمة مواقفهم الكلامية والإعلامية الجيدة" في التعويض لإيران عن الخسائر الناجمة عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق و"خصوصاً في المجال الاقتصادي". في موازاة ذلك، صبّ روحاني جام غضبه على الأوروبيين وشركاتهم ومصارفهم، ليتهمهم بالتبعية لواشنطن والرضوخ لها، قائلاً إنهم "يعتبرون أميركا قائد العالم"، ما أدى إلى "عدم اتخاذ قرارات سليمة لأجل مصالح أوروبا والمنطقة والعالم".
أما الرسالة الثانية أيضاً فهي موجهة لشركاء الاتفاق الخمسة، ومفادها أن الخطوات الإيرانية الراهنة ليست إلا إنذاراً وتحذيراً مما قد تتخذه طهران من إجراءات أكثر خطورة وأهمية خلال المرحلة المقبلة، لذلك جاء منحهم مهلة الشهرين، على أمل الاستجابة لمطالب إيران قبل أن تتبنى خيارات أخرى، لم يكشف روحاني عنها، لكن يتوقع أن يكون أحدها الانسحاب من الاتفاق النووي، أو الذهاب أبعد من ذلك عبر الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، والذي لطالما هددت إيران به. وفي السياق، جاء تحذير روحاني بأن بلاده لم تعد قادرة على أن تتحمل لوحدها مهمة الحفاظ على الاتفاق النووي، مؤكداً "ضرورة أن يدفع الجميع تكاليف بقاء الاتفاق النووي في حال يخدم الاتفاق أمن العالم والمنطقة والسلام والتنمية".
أما الرسالة الثالثة، فهي باتجاه الولايات المتحدة الأميركية، وفحواها أن استراتيجية "الضغوط القصوى" التي تمارسها منذ عام، خصوصاً في المجال الاقتصادي عبر العقوبات "القاسية"، فشلت، أقله حتى اللحظة، في إجبارها على التراجع عن مواقفها وسياساتها. وفي هذا السياق، لسان حال طهران أنها هي التي تمسك بزمام المبادرة مع الذكرى السنوية الأولى للانسحاب الأميركي من الصفقة النووية من خلال اتخاذها "إجراءات تصعيدية مرحلية"، ليقول كبير المفاوضين الإيرانيين السابقين حسين موسويان، في تغريدة، إنه "مضت سنة على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وإيران تحملت التصرفات الأميركية، وبعد عام إيران ترد بالمثل، فحان دور أميركا لتصبر على إيران لعام". في موازاة ذلك، خصصت الرسالة الرابعة للداخل الإيراني وحلفاء إيران الإقليميين، لطمأنتهم إلى أن طهران تملك القدرة على الرد، وأنها ليست عاجزة عن فعل شيء أمام التصرفات الأميركية ومماطلات شركاء الاتفاق النووي، خصوصاً الأوروبيين في تنفيذ تعهداتهم.
وفي السياق، حاول روحاني أن يطمئن حلفاء وأصدقاء إيران، قائلاً "ليعلم أصدقاؤنا الأعزاء في العالم والمنطقة بأن نظامنا مستدام وشعبنا متحد، وإن كانت هناك خلافات في وجهات النظر نتركها جانباً لمواجهة الضغوط الأميركية". ويستشف من تصريحات روحاني، تحديداً ما يتعلق بالشركاء، استعداد طهران للتفاوض معهم، لكن على نحو مختلف عما جرى خلال العام الأخير، والذي لم يصل إلى نتيجة، الأمر الذي دفع طهران إلى التعبير عن غضبها من خلال تقليص تعهداتها النووية. واللافت أن روحاني، خلال حديثه عن التفاوض، خاطب الأطراف الأعضاء في الاتفاق النووي حصراً، دون أدنى إشارة ولو مبطنة للتفاوض مع الولايات المتحدة، ولو تحت طائلة "شروط"، ليشير ذلك إلى أن طهران أصبحت متأكدة من انعدام كامل لفرص إجراء أي تفاوض مع واشنطن، أقله في المرحلة الراهنة. وأعلن روحاني، خلال الشهر الماضي، أن بلاده مستعدة للتفاوض مع الإدارة الأميركية في حال تراجعت عن قراراتها وتصرفاتها "غير القانونية وقدمت الاعتذار". وتريد طهران حالياً التفاوض تحت ضغوط إجراءاتها الأخيرة، بعد أن خاب أملها من المفاوضات مع الأوروبيين على مدى عام كامل، لذلك كان كلام روحاني صريحاً في هذا الصدد من أن إيران ستخوض التفاوض مع الأطراف المتبقية في الاتفاق النووي "بلغة جديدة" بعد أن كانت تتفاوض سابقاً "بلغة السياسة والصداقة".
ويظهر من تصريحات روحاني أيضاً أن التفاوض المطلوب إيرانياً هو الذي يكون في إطار الاتفاق النووي، الأمر الذي يعني أنه ليس في وارد الحسابات الإيرانية الدخول في التفاوض بشأن برنامجها الصاروخي ودورها الإقليمي، وهما الملفان "المهمان" بالنسبة لأوروبا التي حاولت خلال الفترة الماضية أن تستدرج طهران إلى إجراء مفاوضات بشأنهما، لكنها لم تنجح في ذلك. وفي هذا الصدد، أكد روحاني أن أي مفاوضات جادة يجب أن تكون "في إطار الاتفاق النووي. لا أكثر ولا أقل"، مشدداً على عدم تغيير الاتفاق، وحصر تلك المفاوضات على "بحث تنفيذ التعهدات" لجميع الأطراف، وذلك بغية إعادة قطار الاتفاق إلى سكته الصحيحة، على قاعدة "ربح ربح"، بعد أن تحول إلى اتفاق "ربح ـ خسارة" بفعل العقوبات الأميركية، ليؤكد روحاني أنه إما أن يربح الجميع أو أن يخسر الجميع.