في وقت توشك فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تنفيذ أكبر عملية هدم لمساكن مقدسيين في حي واد الحمص، جنوب القدس المحتلة، تعيش عشرات العائلات التي تقطن هذه الشقق، وتلك التي كانت تتهيأ للانتقال إلى مساكنها الجديدة، كابوساً قبل عملية الهدم التي يهدد الاحتلال بتنفيذها في أي لحظة، والتي تستهدف نحو 230 شقة سكنية، أمهل الاحتلال أصحابها حتى 18 من الشهر الحالي لهدم شققهم. وقد أجرت قوات الاحتلال مناورتين في تلك الشقق المهددة بالهدم، بالاشتراك مع طواقم الهدم التابعة لجيش الاحتلال وبلديته في القدس المحتلة، في غضون أقل من أسبوع، بعد أن كانت طواقم فنية وهندسية تضم خبراء متفجرات قد سجلت قياسات تلك الشقق، وفحصت مخارجها ومداخلها ومحاور الطرق المؤدية إليها. وجاء ذلك بعدما كانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد أصدرت قراراً في 30 يونيو/ حزيران الماضي، يقضي بمنح جيش الاحتلال حق هدم نحو 100 مبنى سكني تضمّ نحو 230 شقة في حي واد الحمص ببلدة صور باهر، جنوب القدس.
وبدأ جيش الاحتلال بملاحقة السكان منذ حوالي 3 أعوام، بسلسلة من قرارات الهدم، متذرعاً بقرب تلك المباني من جدار الفصل العنصري على امتداد شارع محاط بالأسلاك الشائكة والمجسات الإلكترونية، فيما تدّعي سلطات الاحتلال أن لديها ما يبرر عمليات الهدم، أهمها أن البنايات تقع على بعد 250 متراً من الجدار، وذلك لـ"دواعٍ أمنية"، علماً أن البنايات التي صودق على هدمها يقع الجزء الأكبر منها في منطقة مصنفة "أ" وحاصلة على التراخيص.
ويقع حي واد الحمص خارج حدود بلدية القدس وتصنف غالبية أراضيه ضمن مناطق "أ" التابعة للسلطة الفلسطينية، وكان أصحاب الشقق قد حصلوا على رخصة البناء من وزارة الحكم المحلي الفلسطينية، علماً أن كثيرين منهم هم من المقدسيين حملة البطاقة الزرقاء الذين اشتروا الأراضي في الحي وشيّدوا مساكن لهم، وهو أمر لم يكن متاحاً لهم داخل الحدود البلدية المصطنعة، حيث تفرض سلطات الاحتلال قيوداً مشددة للغاية على البناء الفلسطيني هناك.
ويشير رئيس لجنة الحي حمادة حمادة إلى أن "القضية ارتبطت أيضاً بجدار الفصل العنصري الذي شطر أراضي حي واد الحمص، وذلك عندما رسمت سلطات الاحتلال مسار الجدار فيه عام 2003، ما أفضى إلى أن تقع بعض المنازل خارجه. وهو ما دفع الأهالي إلى تقديم التماس ضد المسار الذي يمر وسط قرية صور باهر، فوقع الحي داخل الجدار من ناحية القدس التي تسيطر عليها سلطات الاحتلال، في حين بقي خارج نفوذ بلدية الاحتلال". هدم الشقق السكنية في واد الحمص سيضاعف معاناة أصحاب الشقق السكنية المهددة بالهدم، الذين سيشردون بحثاً عن مأوى جديد، ومنهم المواطن المقدسي غالب أبو هدوان، وهو رب عائلة مكونة من 8 أشخاص. يؤكد أبو هدوان لـ"العربي الجديد"، أنه حصل على شقته "بعد شقاء وعناء من الإيجارات المرتفعة في القدس المحتلة، إذ يصل معدل الإيجار الشهري لشقة صغيرة إلى ألف دولار". ويضيف أنه "حين شرعنا بالبناء أوقفونا بقرار صادر عن جيش الاحتلال، والذي دمّر بنى تحتية كنا قد أنشأناها، بما في ذلك تجريف شارع يصل إلى المباني المهددة بالهدم".
يشبّه المواطن المقدسي محمد عبيدية، وهو من سكان حي واد الحمص، إقامة مقطع من الجدار حول الحي بالـ"غيتو" المحاصر بالأسلاك الشائكة وكاميرات المراقبة المتطورة والمجسّات الإلكترونية. ويتساءل عبيدية "لماذا مطلوب منا أن نبتعد في بنائنا عن الجدار مسافة 250 متراً بينما هم يواصلون توسيع مستوطناتهم في أبو غنيم؟ لماذا صبروا علينا كل تلك الفترة ليسلمونا أوامر الهدم؟"، مضيفاً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "كان الكثير منّا في مراحل التشطيب الأخيرة لمنزله، وبالتالي هم أرادوا أن يضاعفوا من خسائرنا وأن يفاقموا من معاناتنا".
يتفق مع هذا الرأي أيضاً رئيس لجنة الحي حمادة حمادة، الذي يؤكد أن "المتضررين من أوامر الهدم لمنازل الحي لا يقتصرون على سكانه البالغ عددهم ستة آلاف نسمة، بل يطاول نحو ثلاثين ألف نسمة من أهالي بلدة صور باهر، والذي يشكل واد الحمص امتداداً لأراضي البلدة". ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "سلطات الاحتلال تعمّدت إلحاق الضرر بأصحاب المنازل، ضرر نفسي وخسائر مادية طائلة، علماً أن الهدم سيطاول أكثر من 230 منزلاً ومنشأة، وبالتالي هم انتظروا حتى أقيمت المساكن ليصدروا أوامرهم بهدمها، بغطاء من المحكمة العليا الاحتلالية، والتي كانت على الدوام تشكل غطاء لممارسات الاحتلال بحق المقدسيين". ويقول إن "الإخطارات الأخيرة بشأن هدم تلك الشقق السكنية التي سُلّمت قبل نحو شهر لأصحابها أو علّقت على الجدران من دون أن يتسلمها أصحابها، لم تكن وليدة الأيام والأسابيع الماضية، بل تمتد لسنوات".
ويوضح حمادة أن "الاحتلال يسعى لتوسيع نطاق مستوطنة أبو غنيم (هارحوما) المقامة على أراضي الفلسطينيين، جنوب بلدة صور باهر، لذلك فالاحتلال يخشى من أي بناء فلسطيني يقام في تلك المنطقة، لأنه سيحد من تمدد هذه المستوطنة التي يتواصل البناء داخلها ومحيطها سواء في الشرق أو في الشمال الشرقي، حيث يُتوقَع أن تتقاطع عمليات البناء الاستيطاني مع مستوطنة (كيدار) المقامة إلى الشرق من أبو ديس والعيزرية الواقعتين في جنوب شرقي القدس".
ويتولى جيش الاحتلال عبر ما يسمى بـ"إدارته المدنية" منح تراخيص البناء في أحياء تقع خارج الحدود المصطنعة لبلدية الاحتلال باعتبارها مصنّفة مناطق ضفة غربية تخضع لإدارته العسكرية، كما هو الحال في أحياء الزعيم، الشيخ سعد، السواحرة الشرقية، عناتا، حزما، جبع، ومخماس، وكذلك الحال في مناطق (ج) التي ترفض الإدارة المدنية منح الفلسطينيين في هذه المناطق تراخيص بناء.
ويؤكد محامي العائلات المتضررة من عملية الهدم، هيثم الخطيب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "قائد جيش الاحتلال في الضفة الغربية، كان قد أصدر عام 2011 أمراً يمنع إقامة مبانٍ على بعد 250 متراً من الجدار لأسباب أمنية، لكنه لم يطبقه".
وعام 2015 قرر جيش الاحتلال تطبيق هذه السياسة المتعلقة بالأسباب الأمنية بسبب الجدار، بداية في حي واد الحمص، وسلم أصحاب ثلاث بنايات أوامر بالهدم، ليُتبعها لاحقاً بأوامر هدم لـ12 بناية أخرى، قبل أن يتراجع لاحقاً عن هدم بعض المباني كلياً وحولها للهدم الجزئي، بعد أن تصدى المركز الكاثوليكي لحقوق الإنسان "سانت إيف" لأوامر الهدم، خصوصاً أنها لا تمس هذا الحي فقط، وإنما تشمل كل المناطق المحاذية للجدار العازل في الضفة الغربية الواقعة تحت سيادة السلطة الفلسطينية، وفق ما يوضح الخطيب، الذي يشدد على أن "قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الأخير يضع البنايات المهددة تحت خطر الهدم الكلي أو الجزئي"، موضحاً "عدم إمكانية الاستئناف على قرار المحكمة العليا".
ويتهم الخطيب المحكمة بـ"التواطؤ مع جيش الاحتلال"، قائلاً: "لقد سارت المحكمة على الخطة التي وضعها الجيش بحذافيرها ولم تغير شيئاً في قراراته، وهذا الضرر سيمتد ليشمل المناطق المحاذية للجدار في الضفة الغربية كافة".
وكان مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان "بتسيلم"، قد اتهم في تقرير سابق له، جهاز التخطيط الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية بأنه "سياسة تعميق وتوسيع السيطرة الإسرائيلية على الأراضي في أرجاء الضفة الغربية". ووفقاً للتقرير: "تحقّق إسرائيل هذه الغاية بمنع الفلسطينيين من البناء في نحو 60 في المائة من مناطق (ج) التي تشكّل ما يقارب 36 في المائة من مجمل أراضي الضفة الغربية، عبر ذرائع مختلفة، بينما غيّرت إسرائيل في قانون التخطيط الأردني الساري في الضفة واستبدلت كثيراً من بنوده بأمر عسكري، ونقلت كل صلاحيات التخطيط في الضفة إلى مجلس التخطيط الأعلى التابع للإدارة المدنية وألغت أيّ تمثيل فلسطيني في لجنة التخطيط. وهكذا أصبحت الإدارة المدنية المسؤول الوحيد عن التخطيط والتطوير في الضفة الغربية، سواء في البلدات الفلسطينية أو في المستوطنات".
وتستغلّ إسرائيل سيطرتها الحصرية على جهاز التخطيط لتمنع التطوير الفلسطيني بشكل شبه تام، كي تكثّف البناء حتى داخل الـ40 في المائة المتبقّية التي لا يُمنع الفلسطينيون مسبقاً من البناء فيها. واستناداً للتقرير ذاته، فإن نتائج هذه السياسة انعكست جلياً في المعطيات المتعلقة بطلبات رخص البناء، ووفقا لمعطيات "الإدارة المدنية"، قدّم الفلسطينيون 5475 طلب ترخيص بناء في الفترة الواقعة بين عام 2000 ومنتصف عام 2016، وتمّت الموافقة على 226 طلباً فقط، أي نحو 4 في المائة من الطلبات.
أما في ما يتعلق بأوامر الهدم، فقد أصدرت الإدارة المدنية الإسرائيلية 16796 أمر هدم في الفترة الواقعة بين عام 1988 وعام 2017؛ نفذ منها 3483 أمراً (نحو 20 في المائة)، ولا يزال 3081 أمر هدم (نحو 18 في المائة) قيد المداولة القضائية. وحتى عام 1995 (عام توقيع اتفاقية المبادئ الانتقالية)، أصدرت الإدارة أقل من 100 أمر هدم سنوياً ولكن منذ تلك السنة أخذ يتزايد تدريجياً إصدار أوامر الهدم حتى بلغ معدل ألف أمر سنوياً بين الأعوام 2009 و2018.
ووفقاً لمعطيات "بتسيلم"، فإنه منذ عام 2006 (السنة التي بدأت فيها بتسيلم بتوثيق هدم المنازل)، وحتى نهاية عام 2018، هدمت سلطات الاحتلال على الأقلّ 1401 منزل فلسطيني في الضفة الغربية من دون شرق القدس. وأشار المركز إلى أنه "في أعقاب الهدم، فَقَد على الأقل 6207 أشخاص منازلهم، بينهم على الأقل 3134 قاصراً، وأنه في التجمّعات التي لا تعترف بها إسرائيل، وجزء كبير منها مهدّد بالتهجير، تهدم الدولة منازل السكان مراراً وتكراراً، فيما شردت إسرائيل خلال هذه الفترة مراراً في هذه التجمعات 1014 فلسطينياً، بينهم 485 قاصراً نتيجة هدم منازلهم المتكرر".