الانتخابات الإسرائيلية المعادة (3): بيرتس في خدمة نتنياهو وبينت يغازل غانتس

20 يوليو 2019
تحالف كاحول لفان بقيادة غانتس (مناحيم كاهانا/ فرانس برس)
+ الخط -
لا تزخر ساحة حزبية بالمفاجآت والتحالفات المتقلبة والمتناقضة مثل الساحة الحزبية الإسرائيلية. فقد تحولت المبادئ والقيم والبرامج الانتخابية إلى مجرد عروض أولية لا غير، قابلة للتعديل والتغيير تبعاً للمصلحة الحزبية. تجلى ذلك أول مرة بشكل ظاهر وملموس، في التقاء حزبي العمل والليكود في أول حكومة وحدة وطنية برئاسة شمعون بيريز على أثر التعادل بين معسكري الليكود والعمل بعد انتخابات العام 1984، وتكرر مرة أخرى بعد انتخابات العام 1988. وقد سبقت هاتين الحكومتين، حكوماتُ وحدة وطنية مختلفة (بفعل الظروف الإقليمية والأمنية) كما حدث عام 1967 شكلها ليفي أشكول عشية حرب يونيو/حزيران، عندما ضم مناحيم بيغن لحكومة وحدة، في سابقة رفعت عن بيغن وحزبه آنذاك جاحل، الحظر الذي كان وضعه مؤسس دولة الاحتلال دافيد بن غوريون، ومعادلته الشهيرة لتشكيل الحكومات في إسرائيل: "بدون حيروت وماكي" (وحيروت اسم الحركة التي تزعمها بيغن وشكلت لاحقاً مع حركات أخرى كتلة جاحل ثم الليكود، وماكي هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي).

منذ العام 1984، باتت المصلحة الحزبية للدخول في الحكومة، هي العامل المقرر عند الأحزاب الإسرائيلية المختلفة (طبعاً باستثناء الأحزاب العربية التي ظهرت في أواسط الثمانينيات، فماكي، أي الحزب الشيوعي الإسرائيلي لم يطرح نفسه يوماً بأنه حزب عربي، وهو لم يكن كذلك أصلاً بقدر ما كان حزباً يهودياً عربياً). وبرز ذلك بدءاً بالقائمة التقدمية للسلام والمساواة في العام 1983، ولاحقاً الحزب الديمقراطي العربي، أواخر العام 1987 مع انسحاب عبد الوهاب دراوشة من حزب العمل وتأسيسه الحزب الديمقراطي العربي).

ساهم هذا السلوك الانتهازي للأحزاب الصغيرة، خصوصاً بعد انتقال المفدال عام 1977 من دعم العمل والمشاركة في حكومته إلى دعم الليكود، وهو ما مكّن من وقوع الانقلاب السياسي في إسرائيل، وعزز من دور أحزاب صغيرة فئوية تخدم قطاعات دون غيرها، مع بدء عمليات تراجع قوة الحزبين الكبيرين، في كل معركة انتخابية، ولم يعد بمقدور أي حزب إسرائيلي أن يحقق أكثر من 40 مقعداً من أصل 120 مقعداً في الكنيست.

تحول الانتقال من معسكر إلى آخر، والانتهازية السياسية إلى سمة ثابتة في الساحة الحزبية الإسرائيلية، وهي ظاهرة اعتمدت بشكل أساسي على هوية مؤسسي هذه الأحزاب، منذ حركة تيلم التي أسسها موشيه ديان، وحزب ياحد الذي أسسه عيزر فايستمان ومروراً بالجنرال يغئال يادلين الذي أسس أول حركة وسط "داش" وكان لها أثر بارز إلى جانب المفدال في تشكيل حكومة بيغن الأولى. ظاهرة تأسيس أحزاب تقوم على نجومية صاحبها، خصوصاً إذا كان جنرالاً سابقاً، كما في حالات موشيه ديان، وعيزر فايتسمان ويغئال يادلين، رافقتها أيضاً عملية بناء أحزاب تعتمد على سطوة القائد المؤسس وتغيب عنها العمليات الحزبية والديمقراطية الداخلية، لكنها مع ذلك حكمت على هذه الأحزاب بأن تبقى موسمية، أو مرهونة ببقاء مؤسسها وهو ما كان أيضاً مصير حزب شينوي الذي اعتمد في نهضته الجديدة مطلع الألفين على نجومية الصحافي تومي لبيد وعدائه الشديد للتيارات الدينية في إسرائيل.

هذه المقدمة ضرورية لفهم ما يحدث اليوم أيضاً في السياسة الإسرائيلية وساحتها الحزبية، خصوصاً أن ظاهرة إقامة أحزاب بالاعتماد على نجوم، سواء من الإعلام والمشاهير أو من الجيش مثل "كاحول لفان بقيادة الجنرالات بني غانتس وموشيه يعالون، وغابي أشكنازي"، تأتي مصحوبة بغياب أي عملية ديمقراطية داخلية في اختيار مرشحي هذه الأحزاب للكنيست. تتم هذه العملية عادة، وفقاً لأهواء القائد المؤسس، وهو ما ميز أيضاً حزب يئير لبيد "ييش عتيد" قبل اندماجه في تحالف "كاحول لفان"، وحزب يسرائيل بيتينو بقيادة أفيغدور ليبرمان، وحزب "اليمين الجديد" بقيادة نفتالي بينت وأيليت شاكيد. وإذا كانت الأحزاب الأولى في أواخر سبعينات القرن الماضي، مثل أحزاب فايتسمان وديان ويادلين، تكتفي بالخبرة العسكرية والأمنية لقادتها في تشكيل لوائح المرشحين للكنيست، فإن الأحزاب الجديدة ومنذ أولى محاولات إسقاط نتنياهو عبر تشكيل حزب "المركز" المندثر بقيادة الجنرالين أمنون ليفكين شاحاك ويتسحاق مردخاي، تعتمد الاستطلاعات أداة رئيسية لاختيار قائد الحزب. وتحدد نتائج الاستطلاعات من منهم صاحب الفرص الأوفر في حصد أكبر عدد من المقاعد للحزب.



منذ ذلك الوقت ورغم عدم دقتها، وأحياناً خطئها الفادح في استشراف النتيجة (ففي العام 1995 نامت إسرائيل مع نتائج تشير إلى فوز بيريز برئاسة الحكومة، لتستيقظ صباحاً على فوز نتنياهو عليه) باتت الاستطلاعات، حتى بعد اعتراف عناصر من الليكود بأنهم عملوا بشكل ممنهج على تضليل خبيرة الإحصائيات مينا تسيمح في استطلاع التصويت للقناة 12 في انتخابات إبريل/نيسان الأخيرة، المؤشر الوحيد المعتد به حزبياً وإعلامياً لمحاولة قراءة الصورة الانتخابية والنتائج المتوقعة.

هذا الأمر يجعل من الإسرائيليين مشدودين بشكل مدمن على استطلاعات أسبوعية، وأحياناً بعد كل حدث سياسي أم أمني، حتى لو ظلت النتائج قريبة من استطلاع لآخر، على اعتبار أنها تمثل توجهاً عاماً في إسرائيل.
وبالرغم من المحاذير المختلفة، إلا أن هذه الاستطلاعات، بدأت تشير مثلاً في الأسابيع الأخيرة، إلى تحول معين في الرأي العام الإسرائيلي، ليس في صالح معسكر نتنياهو، ما دام أفيغدور ليبرمان، يصرّ على عدم ترشيح زعيم حزب الليكود لتشكيل الحكومة المقبلة. فبالرغم من استياء الإسرائيليين عموماً من قرار حل الكنيست والذهاب لانتخابات جديدة، بعد أن فشل نتنياهو بتشكيل الحكومة بسبب رفض ليبرمان الانضمام إليها، إلا أن الاستطلاعات كلها تشير بشكل ثابت ليس إلى معاقبة ليبرمان، بل إلى العكس من ذلك، إذ تمنحه ازدياداً في قوته البرلمانية المرتقبة من 5 مقاعد وفقاً لنتائج انتخابات إبريل الأخيرة إلى 8-9 مقاعد بحسب استطلاعي معهد سميث وصحيفة مَكور ريشون اللذين نشرا أمس، مقابل تراجع الحزبين الكبيرين: الليكود وتحالف كاحول لفان، من 35 مقعداً لكل منهما إلى 31 لليكود و28 لكاحول لفان.

وتشير نتائج هذه الاستطلاعات، في الأسابيع الأخيرة، إلى تعذر قدرة أي من المعسكرين على تشكيل حكومة "ائتلافية" في إسرائيل بدون ليبرمان، أخذاً في الاعتبار أن معسكر نتنياهو حصل وفق الاستطلاعين المذكورين، طبعاً بدون ليبرمان، على 57 مقعداً وفقاً لاستطلاع معهد سميث و56 مقعداً وفقاً لصحيفة مكور ريشون، مقابل 54 لمعسكر تحالف كاحول لفان وأحزاب اليسار والوسط، و9 مقاعد لليبرمان. هذه النتائج رجحت، أخيراً، الحديث عن احتمالين: إما العودة لانتخابات جديدة ثالثة وحالة فوضى سياسية في إسرائيل، وإما تشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو السيناريو الذي يعلن ليبرمان أنه يعمل من أجله، لكنه يحتاج إلى قرار داخل الليكود لتنحي نتنياهو بفعل شرط تحالف كاحول لفان بعدم الدخول في حكومة مع نتنياهو ما دامت ملفاته القضائية بفعل شبهات الفساد ضده معلقة. ويقترح تحالف "كاحول لفان" في أحسن الحالات حكومة وحدة يتولى هو قيادتها في العامين الأولين، ريثما يتضح مستقبل نتنياهو ومصيره وما إذا كانت ستتم محاكمته رسميا أم يمتنع المستشار القضائي للحكومة في نهاية المطاف عن تقديم لائحة اتهام رسمية له، بعد جلسة الاستماع المقررة مطلع أكتوبر/تشرين الأول المقبل أي بعد أسبوعين من موعد الانتخابات.

لكن في هذه المرحلة بالذات، شهد هذا الأسبوع تطورين سياسيين لا يخرجان عن دائرة "المفاجآت" التي تميز الساحة الحزبية الإسرائيلية، والمرتبطة أيضاً بالنزعات الشخصية لقادة الأحزاب، في اتجاهين متناقضين: ففي مقابلة مع القناة 12، قبل يومين أعلن نفتالي بينت بشكل مفاجئ، أنه لن يسمح بتكرار سيناريو الانتخابات السابقة والذهاب لانتخابات جديدة (ثالثة) وسيرشح لتشكيل الحكومة مرشحاً من اليمين، دون أن يحدد هذه المرة خلافاً للانتخابات الأخيرة، نتنياهو باعتباره المرشح الوحيد لتشكيل الحكومة المقبلة، الأمر الذي جرّ ردود فعل غاضبة في الليكود. تصريح بينت هذا، عكس أيضاً، إشارات منه إلى أنه لا يسقط من خياراته إمكانية ترشيح زعيم "كاحول لفان" الجنرال بني غانتس لتشكيل الحكومة، وفي ظل ميزان القوى الذي تطرحه الاستطلاعات، فإن موقف بينت في حال حصوله على 6-5 مقاعد مع مقاعد ليبرمان بين 8 و9 يمكن أن يقلب موازين القوى ويقرّب "كاحول لفان" من تشكيل ائتلاف حكومي.

المفاجآت السياسية لم تقف عند هذا الحد، ومقابل خشبة الخلاص التي تحملها تصريحات بينت لمعسكر الجنرال غانتس، فقد كشف زعيم حزب "ميرتس" اليساري، نيتسان هوروفيتس، أمس الجمعة أن زعيم حزب العمل عمير بيرتس رفض خلال محادثات الوحدة بين الحزبين الالتزام بعدم الدخول في حكومة برئاسة نتنياهو. هذا الأمر أفشل جهود توحيد الحزبين اليساريين معاً. وأول من أمس الخميس، تم الإعلان عن التوصل إلى اتفاق تحالف بين حزب العمل بقيادة بيرتس، وحركة غيشر التي تقودها أورلي ليفي أبو كسيس، بالرغم من أن الحركة لم تجتز نسبة الحسم (3.25 في المائة)، إلا أن هوية زعيمتها السياسية واضحة فهي من قلب اليمين الإسرائيلي، إذ أسست حركتها بعد انسحابها من حزب يسرائيل بيتينو الذي يقوده أفيغدور ليبرمان، عدا عن أنها ابنة أحد أوائل زعماء الليكود من الطوائف الشرقية وهو وزير الخارجية الأسبق دافيد ليفي.

وإذا كان نفتالي مدفوعاً بالرغبة من الانتقام من نتنياهو، بعد أن كان نشاط الأخير في المعركة الانتخابية الأخيرة انصب على إسقاط الحزب الذي أقامه بينت مع رفيقته أيليت شاكيد، وهو ما حدث في نهاية المطاف، فإن مصادر في حزب العمل، تعتقد أن موقف بيرتس واستعداده لتقديم طوق نجاة لنتنياهو، من خلال توفير 6-8 أعضاء في الكنيست يضافون للأعضاء الـ 56 الذين يؤيدون حالياً وفق الاستطلاعات ترشيح نتنياهو لتشكيل الحكومة، يحدث مدفوعاً برغبة بيرتس ليس فقط الدخول للحكومة المقبلة بأي ثمن، وإنما أيضاً لضمان دعم الليكود له في حال رشح نفسه لرئاسة الدولة. أخيرا فإن 59 يوماً، هي ما تبقى من أيام للانتخابات الإسرائيلية، المقررة في السابع عشر من سبتمبر المقبل، قد تحمل تطورات إضافية من شأنها أن تؤثر في موازين القوى داخل المعسكرات المختلفة، وبين هذه المعسكرات، ما يجعل عملية التنبؤ بنتائج الانتخابات ضرباً من المستحيل.