وكان فشير قد اعتُبر منذ عام 2011 من الأصوات المعارضة للسلطة العسكرية في مصر، ثم حكم جماعة "الإخوان المسلمين" ثم حكم عبد الفتاح السيسي، على الرغم من استقلاله عن القوى السياسية التقليدية، وتوجيهه انتقادات لاذعة دائماً لها تبدو لبعض المراقبين خارجة عن المألوف. وكان قد عُيّن بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 مباشرةً أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، ثم استقال، ثم نشر روايته الشهيرة "باب الخروج" التي تنبأ فيها بالانقلاب العسكري على الثورة المصرية ومكتسباتها، وصدرت منها طبعات عديدة، وحصدت نجاحاً تجارياً كبيراً وتقديراً نقدياً واسعاً، قبل أن تمنع الدولة في عهد السيسي تداولها بصورة غير معلنة.
وقبل الثورة، كتب فشير روايات عديدة حازت تقديراً نقدياً، مثل "عناق على جسر بروكلين" و"غرفة العناية المركّزة". وبعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، وأثناء وجوده خارج مصر، نشر رواية وحيدة هي "كل هذا الهراء" عام 2017 بواسطة دار نشر غير مصرية، بعدما تمّ تصنيفه من قبل السلطة كاتباً معارضاً غير مرغوب فيه.
وتبدو أزمة فشير مع الخارجية المصرية، بدءاً من إعطائه إجازات طويلة وحتى منعه وتخييره بين العودة والاستقالة، ثم فصله من السلك الدبلوماسي، قصة روتينية تكررت كثيراً في وزارات وجهات حكومية مختلفة بعد انقلاب السيسي، من التعليم والكهرباء والاتصالات، إلى القضاء والسلك الدبلوماسي، مروراً حتى بالإعلام الحكومي. هذا المنحى تكرس نتيجة للتدخّل الأمني ثم الاستخباري والرقابي الإداري الواضح في سياسة تسيير تلك المرافق، وتصاعد الحملات الداعية لـ"تطهير الدولة من الإخوان ونشاط الثورة"، التي بلغت ذروتها عام 2014 مع صعود السيسي إلى السلطة رسمياً، ومن خلال التنسيق بين دائرته الوليدة (العسكرية الاستخبارية الرقابية) وبين رموز العمل الإعلامي، الذين شكلوا البوق الناقل لهذه الاتجاهات الجديدة إلى الشارع والمواطن البسيط، قبل أن يقرر رئيس الجمهورية لاحقاً التخلص من معظم الإعلاميين الذين ساعدوه في هذه الحملة، ولم يبقَ منهم في المشهد إلا الإعلامي عمرو أديب الذي يقدّم برنامجه على قناة سعودية هي "إم بي سي".
لكن بالتوازي مع روتينية قصة فشير، يبرز من تصريحات مصادر دبلوماسية في ديوان الخارجية لـ"العربي الجديد"، أن فصله الآن يُعبّر عن اتجاهات جديدة ومتصاعدة للتضييق على الدبلوماسيين المعارضين أو غير المجازين أمنياً، باستخدام طرق تُعتبر قديمة، لكن مع تكثيف الاستخدام، وتسريع خطوات التخلص منهم، وتحديداً منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، حين نشرت "العربي الجديد" خلاله تقريراً عن مساومة الوزارة للسفراء والملحقين المعارضين بين الاستقالة أو العودة للعمل بدوام كامل، ومن دون بدلات تذكر في ديوانها.
فبعد أيام من إعلان الحركة الدبلوماسية الجديدة في وزارة الخارجية المصرية، التي تضمّنت تغيير السفراء في عدد من العواصم المهمة، والدفع بآخرين بناءً على توصيات جهات أمنية، بدأت الوزارة إجراءات جديدة للتنكيل بالسفراء الذين كانت قد منحتهم إجازات بلا راتب في الفترة بين عامي 2013 و2015، للتخلص منهم على خلفية آرائهم السياسية وانتماء بعض أفراد أسرهم لتيارات معارضة للنظام الحاكم، بعد الانقلاب على الرئيس المعزول محمد مرسي.
وبدا أن الوزارة تسعى، كما حدث مع فشير، إلى محاصرة هؤلاء السفراء وفصلهم من الخدمة، كما ترغب في التضييق على بعضهم بسبب تواصلهم مع شخصيات "غير مرغوبة أمنياً" وتواصل البعض الآخر مع وسائل إعلام أجنبية، على الرغم من أن معظم السفراء الحاصلين على هذه الإجازات يعملون في منظمات دولية أو أكاديميات علمية، ويدفعون ضرائب سنوية لتمكينهم من الاستمرار في تلك الأعمال بعيداً عن السلك الرسمي.
وقالت المصادر إنه منذ ذلك الوقت تمّ فصل أكثر من 50 دبلوماسياً من درجات مختلفة وإجبار العشرات على الاستقالة، وذلك على خلفية أمور لا تنحصر فقط في العمل لدى جهات تراها الوزارة والجهات الأمنية التي تستطلع رأيها "جهات معادية لمصر"، كالمنظمات الحقوقية داخل وخارج البلاد، أو نشر كتابات نقدية معارضة مثل حالة فشير، بل تعدى الأمر ذلك ليصل إلى المحاسبة على الكتابات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي والتعليقات التهكمية أو حتى التلميحات.
وأوضحت المصادر أنه تمت توسعة نطاق المراقبة الأمنية للدبلوماسيين العاملين والحاصلين على إجازات خلال الشهور العشرة الماضية، لتمتد إلى إعداد تقارير على مدار الأسبوع عن نشاطهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولقاءاتهم في النوادي والمصايف والأنشطة التي يحضرونها.
وأشارت المصادر إلى أن جميع الدبلوماسيين الذين يحملون أفكاراً غير متماشية مع توجّهات النظام، إما حاصلون على إجازات أو يُجبَرون على الاستقالة بعد انتهاء إجازاتهم، أو يقبلون بالعودة للعمل في ديوان الوزارة، وهذا المصير الأخير هو ما يخيف بقية الدبلوماسيين الذين ما زالوا في إجازاتهم، لأن العمل في ديوان الوزارة يترتب عليه حصول الدبلوماسي على أساسي الراتب فقط وحوافز قليلة للغاية، ويتم حرمانهم من البدلات الكبيرة المخصصة للدبلوماسيين في الخارج والمنتدبين لدى المنظمات الدولية والجامعات والأكاديميات وغيرها من الجهات. وتكاد العودة للديوان تمثل إعداماً مهنياً ومالياً للدبلوماسي، ولا يقبل بها إلا بعض الميسورين مالياً من الأصل أو المحتاجين بشدة لاستمرار الراتب الشهري أو الساعين لتحسين علاقتهم بالسلطة.
وأوضحت المصادر أنه خلال عامي 2018 و2019، رفع كثير من الدبلوماسيين الذين مرّوا بموقف فشير، دعاوى قضائية ضد الوزارة لإلغاء قرار فصلهم أو إلزام الوزير بالموافقة على تجديد إجازتهم ما داموا يدفعون الرسوم والضرائب اللازمة قانوناً، وما زالوا ينتظرون الأحكام النهائية في دعاواهم.
وكانت وزارة الخارجية مسرحاً لتغييرات هيكلية واسعة، منذ إطاحة حكم جماعة "الإخوان المسلمين" في يوليو/ تموز 2013، بدأها السيسي مطلع عام 2014 بإبعاد جميع السفراء والملحقين والمستشارين، الذين تمّ تعيينهم في عهد "الإخوان" بعد نشر شائعات عن انتمائهم للجماعة أو تعاطفهم مع ثورة يناير، ثم تفاقمت الظاهرة بتولي الوزير الحالي سامح شكري منصبه، الذي قام بعملية إبعاد منظمة وتدريجية للدبلوماسيين والموظفين الإداريين المشكوك في ولائهم للنظام، اعتمدت بشكل أساسي على التحريات الأمنية ورأي الاستخبارات والرقابة الإدارية.
ومنذ عام 2017، اتبعت وزارة الخارجية نظاماً جديداً لتأهيل شباب الخريجين الذين تمّ اختيارهم للتعيين في السلك الدبلوماسي، سواء من خريجي كليات العلوم السياسية أو الاقتصاد أو باقي التخصصات التي يتم تأهيلها للعمل بوظائف مختلفة داخل الوزارة، ويقوم هذا النظام على إلحاق الخرّيجين المقبولين بدورات تأهيل في أكاديمية ناصر العسكرية، ثم في الأكاديمية الوطنية لتأهيل الشباب التي أنشأها السيسي أخيراً، يحاضر فيها مسؤولون في وزارة الدفاع وعدد من الأجهزة الاستخبارية والأمنية.